“مواطنون من الدرجة الأخيرة: صراع المهمّشين في اليمن من أجل الكرامة”:....

في زمن يتغنّى فيه الجميع بالمساواة والعدالة، ويصدح فيه الخطاب العام بقيم الإنسانية والتعايش، يُمارَس في اليمن تمييز طبقي فجّ، مقنّع بثوب العُرف والقبيلة، يفتك بأرواح وطموحات شريحة واسعة من المواطنين، ويصنفهم  دون ذنب أو جرم في خانة “مواطنين من الدرجة الأخيرة”. إنهم المهمشون، (“المزينون”، “الزنابيل”، “الأخدام”)، الذين يُحاسَبون لا على أفعالهم، بل على ألقاب وُلدوا بها، تلتصق بهم كما تلتصق الوصمة، وتحكم عليهم بالمؤبد في سجون النظرة الدونية. المجتمع اليمني، وإن ادّعى الظاهر من التحرر، لا يزال غارقًا حتى أذنيه في وحل الطبقية. الكل يتحدث عن أن “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”، لكن ما أن تقترب القضية من بيت الزوجية أو منصب وظيفي، حتى يلوذ الناس إلى قلاعهم القبلية، ويحكمون على الإنسان من نسبه، لا من علمه أو خلقه. الحلاق، الجزار، الطبال، منظف الشوارع… تُصبغ عليهم تسميات تُقال بابتسامة ساخرة أو نظرة احتقار، كأنها أختام ذلّ لا تُمحى. من هؤلاء الذين يملكون الجرأة ليحددوا قيمة إنسان ؟ ومن خوّل المجتمع أن يحكم على آخر وكأنه إله صغير يصنّف الناس من عليائه ؟ هذه “العبودية الناعمة” التي تُمارس باسم التقاليد، أكثر خُبثًا من أي استعباد صريح، لأنها لا تُمارس بالسلاسل، بل بالتربية والتعليم والدين المعلّب. تُحرم فئات كاملة من حق الزواج، من حق الترقي في السُلّم الاجتماعي، من حق الحلم بمستقبل أفضل، لا لشيء سوى لأنهم ينتمون إلى طبقة لم تصنع خيارها. ويشارك في هذه الجريمة جماعات تدّعي الورع والتقوى، وتقرأ القرآن الذي نسف العصبية القبلية من جذورها، لكنها تغض الطرف عندما يُقصى شخص لأنه “زنبيل” أو “مزين” أو "خادم". مفارقة مرعبة، تُظهر كيف أن التديّن الشكلي يمكن أن يُستخدم كغطاء لأسوأ أنواع الظلم. إن استمرار هذا التمييز الطبقي هو انتحار وطني بطيء. فكيف لبلد يرزح تحت أعباء الحرب والفقر والفساد أن يفرّط بطاقاته البشرية، ويطرد أبناءه من مضمار التقدم فقط لأنهم لا يملكون “لقبًا محترمًا” ؟ كم من عبقري دُفن في الصمت ؟ كم من قائد حقيقي حُرم من القيادة لأن اسمه لا يناسب العُرف ؟ هذه الطبقية ليست مجرد ظُلم أخلاقي، إنها خراب سياسي، وتجهيل اجتماعي، وتجريف لمستقبل الوطن. العار لا يكمن في المهنة، بل في العقلية التي تحتقر الكادحين. المشكلة ليست في “المزين” بل في من يرى فيه عيبًا، لا شرفًا. التغيير لا يبدأ من الشعارات، بل من سلوك الفرد حين يرفض أن يرث كراهية لم يخترها. على اليمن أن تخلع عنها هذا الرداء الموبوء، أن تكسر أصنام النسب، أن تعيد الاعتبار للإنسان، فقط لأنه إنسان. إما أن يتحرر المجتمع من هذه السلاسل الصدئة، أو يواصل تكرار مأساة طبقية تجعله يركض في المكان، بينما العالم حوله يتجاوزه بعقود. فالكرامة ليست هبة تعطى من الأعلى، بل حق يولد مع كل إنسان. وإن لم ندافع عن هذا الحق اليوم، فلن نجد غدًا من يدافع عنّا حين يحين دورنا لنكون الضحية التالية...