"عار على القلم"حين يجعل منه حامله وقوداً للتفاهة!!
في زمنٍ تجتاحنا الأزمات من كل حدب وصوب، ويئن فيه وطننا تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والخدمي، كان من المفترض أن يكون "أصحاب القلم" هم نبراس الأمل، وصوت الحق، والضمير اليقظ للمجتمع..
كنا ننتظر منهم أن يسلطوا الضوء على مكامن الخلل، وأن يقارعوا الباطل، وأن يدفعوا باتجاه الإصلاح والاعتدال، لكن الصدمة تأتينا من حيث لم نحتسب.
فبينما الشعب يكابد مرارة الواقع، ويلهث وراء لقمة العيش، ويراقب عملته تنهار أمام عينيه، ينبري بعض من نَصَّبوا أنفسهم "كُتَّابَ رأي" إلى ساحات التواصل الاجتماعي، ليقدموا لنا وجبات دسمة من السَفَهِ والابتذال، مقاطع رقص معيبة، وإيحاءات ماجنة، وألفاظ سوقية تستحي الأسماع من سماعها، وتراشق بالشتائم والتنمر العلني والمبطن فيما بينهم، وكأنهم بذلك يحتفلون بمآسينا أو يسخرون من آلامنا.
يا له من انحدار مريع، ويا له من عار يُلطِّخ جبين مهنة البحث عن الحقيقة!!
فهل هذا هو الدور الذي ارتضوه لأنفسهم ، أهذا الإرث الذي يريدون تركه للأجيال القادمة، بأن يكونوا مهرجين في سيرك الأحزان، بدلًا من أن يكونوا للكلمة الصادقة فرسان ؟
إن هذا السلوك لا يعكس فقط ضعفاً مهنياً وأخلاقياً، بل يكشف عن يأس عميق أو ربما هروب مُذِل من مواجهة الحقائق المُرَّة، فبدلًا من تسليط الضوء على الفساد والمحسوبية والتقصير الحكومي، يفضلون الانغماس في مستنقع من التفاهة، ظانِّين أنهم بذلك يخففون عن أنفسهم وطأة الواقع، "لعمري إنهم واهمون"، وما هو الإفلاس إن لم يكن ذاك بعينه ما يفعلون.
فبنزولهم إلى هذا الحضيض، فإنهم لايسيئون إلى أنفسهم وحسب، ولايهمهم ذلك بقدر ما تهمهم مكاسب سحت، وفتات من حرام، لكنهم بفعالهم تلك يطعنون في صميم رسالة الصحافة والإعلام، وكيف لنا أن نثق في "صُنَّاع رأي" يعجزون عن الارتقاء بأخلاقهم وألفاظهم؟ وكيف لنا أن ننتظر منهم محاسبة المسؤولين وهم غارقون في مستنقع من العبث واللامبالاة؟
إن هذا التردِّي الأخلاقي والمهني في جزء من المشهد الإعلامي يضعف قدرة المجتمع على التغيير والإصلاح، فعندما يصبح "الناطقون باسم الحقيقة" جزءاً من المشكلة، فمن للشعب المكلوم يا ترى سينتصر لحقوقه؟ ومن سيقف في وجه الباطل وزبانيته؟
إننا أمام مسؤولية تاريخية، تستوجب على المؤسسات الصحفية والنقابات المختصة، أن تتحمل مسؤوليتها في تطهير الصحافة والإعلام من أولئك اللئام، وذلك بفرض معايير صارمة للأداء المهني والأخلاقي، ولا يعني تنزيه الصحافة من البذاءة قمع لحرية الرأي أو تكميم للأفواه، بل إن الكلمة الصادقة والدفاع عن الحقوق والنقد البناء والطرح الهادف هو رسالة الصحافة السامية.
فالواجب علينا دعم الصحفيين والإعلاميين الشرفاء الذين ما زالوا يحملون مشعل الحقيقة والأمل وهم كثر وإن قل متابعينهم، كما وعلى الجمهور أن يكون أكثر وعياً وفطنةً وحصافةً برفضه كل محتوىً هابط لأولئك الثُلّة، وأن لاينخدع بكثرة عدد معجبيهم فهي ليست معياراً حقيقياً ومهنياً، فكثير من التافهين لديهم الملايين من المتابعين والمعجبين، والبعض منهم يستغل حالة الهلع والترقب في ظل ماتعيشه البلد من ظروف استثنائية مؤسفة لم تعهدها من قبل، ليقوموا بنشر العواجل من الأخبار بلا ضمير أو رحمة و دون مراعاةٍ لحال المواطن المهموم وبعيداً عن المهنية في التَثَبُّتَ من مصادر موثوقة رسمية، بل بهدف الشهرة ، وأي شهرة تلك التي تمنحونها أيها الجمهور الأعزاء لأولئك الأغبياء!
وأي واقع هذا الذي نرى فيه بعض منتسبو الصحافة والإعلام قد أرخصوا هيبة حملة الأقلام، وحولوها تجارة لبيع الكلام، ومطيَّة بيد التجّار والحكّام، ولعنة ونقمة على البسطاء من الأنام..
أين هو دور الجهات الرسمية كـ وزارة الإعلام و نيابة الصحافة والمطبوعات، ونقابة الصحفيين والإعلاميين لتطهير مجتمعنا وإعلامنا من دنس اولئك الأقزام؟
لقد آن الأوان أن يستفيق هؤلاء "الساقطون في بئر التفاهة" وأن يدركوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فمهنة الصحافة ليست للتسلية أو الترفيه أو لجلد الضحية وابتزاز الرعية، بل هي رسالة سامية وأمانة عظيمة.
و ليتقوا الله في أقلامهم وفي جمهورهم وفي وطنهم الذي ينزف، فـ "عار على القلم" الذي ينحدر إلى هذا المستوى، وعار على من يحملونه وهم في غَيِّهم ساهون !