ما الذي بقى من الوحدة اليمنية بعد 31 عاما من اعدامها؟ ..

بروفيسور / قاسم المحبشي ..

( في مثل هذا اليوم 27 إبريل 1994م اصدر صاحب سنحان حكم الإعدام على الوحدة اليمنية الحلم والأمل ) ما أفدحها من جريمة..
 
( قل لي ماذا خسرته؟.. وماذا كسبته من الوحدة اليمنية اقول لك من أنت.. ببساطة شديدة جدا ) ..

حينما تعجز النخب السياسية عن تأسيس المؤسسة الوطنية العامة أي الدولة العادلة ( مؤسسة المؤسسات كلها ) بحسب اكتون المؤسسة الجامعة التي تحفظ حياة الناس وتصون حقوقهم وكرامتهم في نظام وطني دستوري جمهوري عادل ومستقر ؛  تزدهر المشاعل والمشاعر والشعارات الرومانسية الحالمة بذكراها تعبيرا عن العزاء والسلوى بفقدها..

فمن لم يجد في الواقع الحاضر الفوري المباشر ما يشبعه ويرويه ويكفيه يضطر مجبرا إلى الحلم تعويضا استيهاميا عن الإنجاز التاريخي الذي لم يتحقق وذلك هو حال معظم اليمنيين مع ذكرى الوحدة اليمنية الرابعة والثلاثين التي صارت أثرا بعد عين! بعد حرب الفتح والتكفير الغاشمة في صيف 1994م ومن حق الإنسان أن يشعر كما تعني له الوحدة وذكراه خيرا أو شرا، بركة أو كعبة بحسب تعبير اخوننا في السودان الشقيقة..

 فالذكريات السارة أو المؤلمة هي التي تبقى عند الناس بحسب تجاربهم وخبراتهم مع الوقائع والأحدث التي مرت ومروا بها. فلا أتعجب حينما اشاهد معظم اخواننا وأصدقاءنا  من شمال اليمن يحتفلوا بذكرى الوحدة لاسيما من ذوي النوايا الطيبة بقدر ما يستفزني احتفال اولئك الذي قتلوها في مهدها بالحرب والتكفير والنهب والتدمير ومنهم صاحب الفرقة الأولى مبرقع  إذ كتب الجنرال العجوز البارحة محتفلا بالوحدة التي لم يضحي من أجلها بمليم واحد ..
ما يلي"

( يانسيجاً حكته من كل شمسِ 
اخلدي خافقةً في كل قمة )..

أصدق التهاني الأخوية لأبناء شعبنا الأبي في الداخل والخارج، بمناسبة احتفالاته باليوم الوطني في ذكراه الرابعة والثلاثين، اليوم الذي أضاءت فيه شمس الوحدة كل ربوع الوطن واكتمل فيه وهج وجمال الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر المجيدتين، ووُصف هذا الحدث بأنه ثورة الثورات...

ورُفع في هذا اليوم الأغر في سماء عدن الحبيبة العاصمة الاقتصادية والتجارية، عَلَمُ اليمن، وتوحّد شعاره ونشيده الوطني، وارتسمت هويته الخالدة ذات التاريخ العريق، وقبل ذلك كانت قلوب اليمنيين واحدة موحّدةً، وتتطلع لمثل هذا الائتلاف الرسمي لوأد أيام التشرذم والانقسام، فالوحدة كانت ولا زالت وستظل أكرم هديّة قدمها أحرار اليمن للحاضر والمستقبل وللأجيال القادمة..

ومثلما كانت الوحدة حدثاً وضاءً في مسيرة الأمة اليمنية، فهي أيضاً مسؤولية والتزام ديني وأخلاقي ووطني يتوجب على الجميع الحفاظ عليها دون الاتكال على أحدٍ دون الآخر، والمضيّ فيما أجمع عليه اليمنيون في حوارهم الوطني من بناء دولةٍ اتحادية من ستة أقاليم، تضمن زوال مخلفات الإمامة الكهنوتية ومخلفات الاستعمار البغيض...

تحية إجلالٍ وتقدير لمناضلي الثورة اليمنية، وتحيةً لصنّاع هذا اليوم الخالد المجيد، والتهاني لكل أبناء الشعب اليمني، صُناع أعيادنا الوطنية وحرّاس أهدافها... 

حفظ الله يمننا وشعبنا، وأدام عليه جمهوريته ووحدته وأمنه واستقراره وسيادته. علي محسن الأحمر" ومثله كتاب عيال عفاش وربما اكثر ومثلهم كتب عيال الزنداني وانصاره ومثلهم كتب عيال الأحمر بل وابلغ واكثر حماسة تعبيرا عن المشاعر ( الوطنية اليمنية الوحدوية الجمهورية التي تقطر مسؤولية وصدقا براءةً ونزاهة من كل الأغراض يا عيال اللذين ) على من تكذبوا  وانتم تذرفون دموع التماسيح يا اوغاد. حتى الحوثيين الذين ينادون بالحق الطائفي يحتفلون بالوحدة اليمنية بوقفها وحدتهم! يا الله من اين هبط على اليمن كل هذا الخراب الوبيل ؟!..

نحن فقط الذين دفعنا ثمنها ( الوحدة) عدا ونقدا من حياتنا ودمائنا وعرقنا وآمالنا وأحلامنا وسيادتنا وحقوقنا وكل شيء تقريبا . نحن فقط ما يحق له قول ما يريد بهذه الذكرى وانتم عليهم فقط الشعور بالخجل والندم والتكفير عما فعلتوه بالجنوب واهله وفي الوحدة وفي اليمنيين ووحدتهم الحلم التي كانت الفرصة الوحيدة القادرة على لم شعثهم لو أنكم تركتوها تمضي بسلام وبرفق وعناية واهتمام بلا ضرر ولا ضرار ..

لقد حولتوها إلى جرح غائر وطعنة غادرة في قلب اليمن واليمنيين لن تندمل أبدا وكلما تذكرتموها بهذا الطريقة الوقحة الخالي من أي احساس بالمسئولية والإحساس بالندم والتعاطف مع الضحايا كلما انكأتوا جراح الضحايا يا أوغاد . بالنسبة لي اشعر بالحزن الشديد على ضياع الوحدة اليمنية التي كانت في خاطر وحلمت بها منذ نعومة أضفاري ورددت أسمها صباح كل يوم في تحية العلم المدرسي..

 نعم حزين عليها وما جرى لها بأفعالكم التي حولتها إلى كارثة واشعر بالقهر مما حدث لي باسهما واشعر بالندم لانني أحببتها؛ خليط من المشاعر تتقد في وجداني وانا اتذكر 22 مايو 1990م وكيف مر على اجساد الضحايا الكثر في جنوب اليمن وأنا منهم وإلى أين آل به وبنا المصير بعد 34 عاما الا تخجلون بحق السماء بماذا تحتفلون يا هولاء؟!..

 قال لي: صديق عزيز أكاديمي مثقف من صنعاء  .، المسامح كريم يا دكتور قاسم وانت صاحب فكر ورؤية وتلميذ ابوبكر السقاف. قلت له المسامح كريم لو كانت تحولت إلى مؤسسة وانتصرت وشفتها واقفة على قدمية في دولة جمهورية يمنية عادلة ومستقر ومزدهرة وذات سيادة تفتخر بنا ونفتخر بها أما وقد صرت كما ترى يا صديقي فكيف أسامح ولماذا أسامح؟! لن أنسى ما حييت احتلال الغزاة لمنزلي ومنزل اخي ونهب كل شيء بهما حتى النوافذ والأبواب في خور مكسر ، القرية الروسية وإحراق مكتبتي؛ شقاء عمري باحتفال مشهدي يردد شعار التكفير الأثير ( الله أكبر الله أكبر ألله أكبر )  من يحتفلوا اليوم بذكرى الوحدة التي استثمروها حتى الرمق الأخير لايشعرون بنا نحن الذين دفعنا ثمنها من حياتنا وكرامتنا ودمنا واحمنا وأعمارنا  ولا بتأنيب ضمير مما جرى..

 وعلى كل حال لا معنى للاختلاف بين الناس بعد ضياع مؤسساتهم الوطنية فلا شيء غير المشاعل والمشاعر والذكريات. ولو أن المشاعر والشعائر لها وزن وقيمة وتؤثر في واقع الحال لما احتفل أحفاد الإمام بذكرى ثورة سبتمبر الستين في عاصمة الجمهورية اليمنية؛ صنعاء التي ضاعت في مهب العاصفة ، إذ شاهدناهم يحتفلون بذكرى عودة سقوطها في  21 سبتمبر الماضي في ميدان السبعين بعرض عسكري تاكيدا لتمكنهم من احتواءها..

 المؤسسات وحدها هي التي تدوم أما المشاعر والمشاعل فهي بنت يومها مثل الغيوم العابرة في صيف قائض. ومنه العوض وعليه العوض. والناس هم الذين يقومون بتشكيل مؤسساتهم العامة ثم تقوم هي بتشكيلهم فكيفما كانت مؤسساتهم يكونون ولا سحر في التاريخ ولا مصادفة في الطبيعة. لا الأخلاق ولا المواعظ ولا التقوى ولا الدين ولا الثقافة ولا الحب ولا الانتماء ولا النوايا الطيبة يمكنها أن تصنع النظام في أي مكان أو زمان في هذا العالم. النظام والانضباط هو ابن الدولة والقانون الذي ليس له لا قلب ولا عيون! هو سيد الجمع بلا استثناء. ولا وحدة ولا اتحاد ولا اجتماع ولا اندماج بدون مؤسسة دستورية قانونية جامعة وعادلة ومستقرة إلا في قلوب القوى الناعمة فقط. والناس بدون قانون ومؤسسات وعيونهم الى الأرض أشد فوضى وانحطاط من الحيونات. والأشخاص يأتون ويذهبون بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية...

من ذكريات الوحدة التي كنا نحبها.. 

ذات يوم كنت في صنعاء بعد الاجتياح العسكري الغاشم لمدينتي البحرية المدنية المسالمة عدن الحبيبة. أُجبرنا على الذهاب إلى صنعاء بعد الحرب لمتابعة رواتبنا؛ مكرهًا أخوك لا بطلاً! وما أصعب مرارة الهزيمة في المجتمعات العربية القبلية التقليدية..

زرت صنعاء قبل الاجتياح وبعدها فشاهدت الفرق بين الحالتين في التعامل والاستقبال لنا نحن -القادمون من الجنوب- قبل الحرب والهزيمة، كانت حفاوة الاستقبال والمعاملة باذخة الكرم والضيافة، لاسيما في المؤسسات الحكومية العامة. كان المسؤول ينهض من مقعدهِ حينما يعلم أنك جنوبيٌّ، ويحيطك باهتمام خاص مشفوعًا بالكلام الجميل الذي يطيب الخاطر...

 كنتَ تخرج من المكتب بقلب مجبور ومشاعر وطنية عالية المودة والأخوية، وترى صنعاء عاصمتك وأهلها أهلك. وأهل صنعاء كرام بطبيعتهم ولا تحس بينهم بالغربة والاغتراب. كم أحببتها حينها فقط. أما بعد الحرب والهزيمة فقد اختلف الأمر ١٨٠ درجة...

 طلعنا بروح مكسورة مثقلة بمشاعر الحزن والقهر والندم. كان ذلك عام ١٩٩٦م إذا لم تخني الذاكرة. لم يستقبلنا أحد! ..

كانت صنعاء في قمة نشوة نصرها على أختها عدن، وكانت القبائل والعسكر الذين عادوا بالغنائم من عدن، يتفقدون غنائمهم، ويفكرون بكيفية استثمارها في بلادهم -وعز القبلي بلاده! وكان الأخوة الشماليون يتدفقون إلى عدن وحضرموت لنهب ما لم يُنهب بعد أو للاحتفاء بالفتح الوحدوي المؤزر بالتكفير والشر الوبيل...

كنا نحن -القادمون من عدن- إلى صنعاء أشبه بالأيتام على موائد اللئام! سكنّا في أرخص اللوكندات القذرة. وكنا نمضغ القات طوال الليل والنهار ولا نحب الخروج إلى الشارع العام، بعكس ما كنا نفعله قبل الهزيمة حينما كان صنعاء بالنسبة لنا عاصمة دولتنا الجديدة. إذ كنا نطوف شوارعها على الأقدام بفرح وانسجام؛ صنعاء القديمة باب اليمن وشارع التحرير وشارع جمال وشارع الزبيري وشارع هايل وشارع حدة والأصبحي والنهدين ووادي ظهر وكل الامكنة الجميلة في المدينة المزدحمة بالسكان.  اكلنا السلتة والفحسة والملوج في شارع الزراعة واشترينا الطنافس الأثرية وكنا نتمنى أن يطول الليل في صنعاء الحميمة بما حوت من كل فن! سكنت حينها في فندق الحمدي الأثري الجميل؛ فأحببتها، وتركت في نفسي أثرًا لا يمحى. هذا كان قبل الحرب والهزيمة الساحقة القاصمة التي قصمت ظهر البعير إلى الأبد...

بعد الهزيمة أجبرنا على الذهاب اليها ونحن صاغرون لغرض ترتيب اوضعنا الوظيفية بعد الهزيمة كان عشرات الالاف من الموظفين الحكوميين في دولة الجنوب الشريكة في وحدة نفق العليين الجنوبي والشمالي احدهما غبي والاخر شرير. في تلك الزيارة المؤلمة شعرت بالاختناق  واحسست بان صنعاء لم تعد هي التي أحببتها قبل الحرب والهزيمة. شهدتها ضيقة وموحشة وغريبة، وتمنيت أن أخرج منها بأسرع وقت ممكن..

ذهبنا لمتابعة مستحقاتنا في المؤسسات المعنية، وتُركنا ساعات على عتباتها الحديدية . كان حراس الأبواب ذاتهم الذين استقبلونا بحفاوة في المرة الأولى يصرخون في وجوهنا بشراسة مصحوبة بنظرة احتقار، إلا من رحم ربي، وكان متربِّيًا وأنا لا ألومهم لأنني أعرف إنها السلطة التي تقول ولا تتكلم! تُركنا ساعات طوال على الأبواب من مطلع الشمس حتى مغيبها، ولكن شمس صنعاء حانية. تم التعامل معنا بوصفنا أسرى حرب لا مواطنين يمنيين من عدن التي قدمت لصنعاء الجمل بما حمل -على طبق من ذهب- في تلك الأيام القاسية، وبسبب الإهانات الظاهرة والخفية، المادية والمعنوية، الواقعية والرمزية التي تجرعناها في مكاتب صنعاء السنحانية الأحمرية؛ كنا نبحث عن أي مكان قريب منها لم نره في المرات السابقة. سألت أحد المارة عن أجمل مكان يمكن زيارته خارج صنعاء فقال لي: بني حشيش حيث مزارع العنب الأحمر والأسود والرازقي على بعد ساعة من هنا..

لم أنتظر بقية الكلام فذهبت أبحث عن محطة بني حشيش وركبت السيارة وهناك رأيت ما يفرح العين وينعش الروح ويبعث السعادة. أناس بسطاء من الرجال والنساء والأطفال لم تلوثهم السياسة استقبلونا بوصفنا سيّاحًا أجانبَ. أخذونا في جولة سياحية في مزارع العنب الواسعة التي كانت في أوج موسم النضج..

دخلنا تحت العرائش الخضراء، ونحن في وضعية السجود ولامسنا عناقيد العنب المتدلية بدهشة وفرح أنستنا الحرب والهزيمة؛ عشت لحظة خاطفة من السعادة الغامرة أحسست بها وأنا في بستان العنب الحشيشي، وتمنيت أنها بلدي..

المزارعون أهدونا سلة كاملة من مختلف أنواع العنب الطازج. تلك السلة ذكرتني بأغنية قديمة كنت أحبها (جاب لي سلة عنب والعنب ما ريده).. لم أعد أتذكر من غناها هل هو وديع الصافي؟ وأنا أحب العنب الأسود الحالي والرازقي. 
والخلاصة أننا أحببناها قبل أن نتذوق عنبها وحينما تذوقناه كانت قد كرهتنا!..

فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر! 
وهاكم الصورة. وحالي يا عنب رازقي 
والحنين وجع الذاكرة...