لماذا أحب معاوية بن أبي سفيان ؟!..

في تاريخ الإسلام نادرة تلك الشخصيات التي تُخلّد في الذاكرة وتظل حية رغم محاولات تشويهها وتزييف مسيرتها، ومعاوية بن أبي سفيان هو أحد هذه الشخصيات التي تستحق الحب والإجلال.
 نعم ، يُعدّ معاوية بن أبي سفيان أحد أهم أعمدة التاريخ الإسلامي الذين ساهموا في صياغة مفهوم الدولة والسيادة الإسلامية العربية رغم ما تعرض له من تشويه متعمد من قبل بعض التيارات الفكرية.
لكن بينما يُتهم مسلسل "معاوية الرمضاني" بتعميق ثقافة الكراهية الطائفية باسم الترفيه، يبقى عرض تاريخ معاوية شاهدا على أنه كان مكاشفة سياسية فذة أسست لأسس دولة خالدة امتدت مظاهرها الحضارية والسياسية من اليمن إلى الصين ومن إسبانيا إلى أقاصي الشرق.
إلا أنه رغم إنجازاته الباهرة، لم يسلم معاوية من محاولات التشويه والتحريف التاريخي، فقد سعى أعداؤه، لا سيما من قِبل التيارات العباسية والفرس والشيعية، إلى التقليل من شأنه والتشكيك في نزاهته القيادية.
بل لقد حاول هؤلاء بشوفينية هاشمية إعادة صياغة التاريخ بما يتناسب مع رؤاهم، إذ كتبوا عن معاوية ما لا يستند إلى وقائع مثبتة، وقللوا من دور الفتوحات التي تحققت في عهده. 
بمعنى أدق فإن ذلك القائد العظيم عانى من هجمات إيديولوجية وسرديات زائفة، ومن التيارات التي سعت إلى إعادة كتابة التاريخ بما يخدم أجنداتها السياسية، إلا أن الحقائق التاريخية تبقى شاهدة على إنجازاته العسكرية والإدارية العظيمة، وعلى تمسكه العميق بالهوية والعروبية العربية.
وللتذكير بدأ معاوية عهده بسلسلة من الفتوحات التي لم تكن مجرد حملات عسكرية عابرة، بل كانت استراتيجيات متكاملة أسهمت في حماية الدولة الإسلامية وتوسيع رقعتها. 
كما اسقطت الدولة الأموية احتلال الروم والحقوا بهم هزائم منكرة. فيما توالت بعدها الحملات التي شملت عدة مناطق من بلاد الروم، حيث تناوب قادة الصحابة في قيادة المعارك التي أقامت سيطرة المسلمين على مناطق شاسعة، وأثبتت هذه الفتوحات قدرة الدولة الإسلامية على تنظيم جيوشها وتوجيهها بفعالية ليس لها مثيل. 
ولقد كانت كل هذه الانتصارات العسكرية تعبيرا عن براعة معاوية في التخطيط والتنفيذ، ما يستحق معه احترام قومه ومكانة رفيعة في التاريخ لا العكس.
فالواقع أن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان كان يدرك أن الوحدة الوطنية قائمة على أكثر من مجرد الانتماء العرقي أو القبلي، بل كانت تحتاج إلى رؤية شاملة تتخطى الانقسامات وتضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار. وهنا تكمن أهمية معاوية في أنه استطاع بذكائه السياسي أن يمهد الطريق لتحولات حضارية شكلت معالم العصر الإسلامي اللاحق.
كذلك تُظهر السجلات التاريخية أن سياسة معاوية لم تقتصر على إدارة الشؤون الداخلية فحسب، بل كانت لها أبعاد استراتيجية خارجة عن المألوف في ذلك العصر. فلقد اعتمد على الدبلوماسية والحكمة في التعامل مع الشعوب والقبائل المختلفة، وأسس لنظام يستطيع من خلاله توحيد الجبهات تحت لواء الإسلام.
ولعل أهم إنجازات معاوية ما تركه من إرث مؤسسي ساهم في تحويل الدولة إلى كيان مستقل يتمتع بهويته وأدواته الخاصة. 
فمن نسله جاء ما يُعرف اليوم بـ "عملة الدولة" التي لم تكن مجرد أداة للتبادل التجاري، بل كانت رمزا للسيادة والوحدة الوطنية، تُنقش عليها رموز الدولة وتعكس حضارتها الإسلامية. كما أن نظام الأوقاف الذي رُسّخ في عهده أو تم تطويره لاحقا استند إلى رؤية مستقبلية للاستثمار في خدمة المجتمع وتعزيز الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين الناس. ولم يكن ذلك فحسب، بل جاءت الختوم الرسمية التي اعتُمدت فيما بعد كرمز للتوثيق والاعتماد في المعاملات، مما ساهم في ترسيخ أسس الدولة المدنية المنظمة.
وعلى صعيد آخر، فإن انتشار الإسلام واللغة العربية كانا من أعظم إنجازات الحضارة الإسلامية التي شيدها معاوية وبناة الدولة الإسلامية اللاحقين. 
والواقع أن مسارات انتشار الإسلام مسارات تطور الدولة الاسلامية في عهده تستحق الدراسة المنصفة والمتبصرة فمن حيث نشأت الدعوة في أحضان البادية العربية، انتقلت عبر طرق التجارة والحملات العسكرية وصولا إلى الصين، ومن ثم إلى أقصى غرب أوروبا في إسبانيا. هذا الانتشار لم يكن صدفة عابرة، بل كان نتيجة لرؤية سياسية شاملة جمعت بين القوة العسكرية والإدارة الرشيدة والقدرة على استيعاب الثقافات المختلفة مع الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية.
بل لعل من أبرز ما يميز معاوية بن أبي سفيان إلى جانب تمسكه الراسخ بالهوية العربية والعروبية هو أن عروبيته  كانت عاملا أساسيا في صون وحدة صفوف العرب اطول مدة في وقت كانت فيه الانقسامات والخصومات الداخلية تهدد تماسك الأمة. 
كذلك كان معاوية يؤمن بأن الحفاظ على القيم والتقاليد العربية الأصيلة يمثل حجر الزاوية في بناء دولة قوية، وقد أثبت ذلك من خلال تبنيه لمبادئ العدل والحكمة في إدارة شؤون الدولة. 
والواقع إنني أحب معاوية بن أبي سفيان ليس فقط لما حققه من إنجازات عسكرية وسياسية وإدارية فقط ، بل لما يمثله من قيم إنسانية سامية أيضا.
 فرسالته التي تتجاوز حدود الحروب والمعارك تتحدث عن وحدة الصف العربي وعن الاعتزاز بالجذور والتراث.
على إن هذا التحريف في تأريخ معاوية ونسله، لم يكن إلا وسيلة لتبرير السيطرة السياسية وتزوير واقعٍ تاريخي لم يعشقه إلا من يرغب في نسيان إرث بني أمية وإعادة رسم معالم السلطة لصالح أطياف جديدة.
بل وفي زمن يواجه فيه الكثيرون محاولات لتشويه الهوية وإعادة كتابة التاريخ بما يخدم أجندات محدودة، يأتي تاريخ معاوية ليذكرنا بأن الحقيقة لا تُمحى وأن الإرث العظيم يبقى رغم كل المحاولات للتشوية.
ومن هنا، فإن إعادة النظر في المصادر الأصلية والبحث المتأني في روايات الفتوحات يُظهر بوضوح أن معاوية كان قائدا حكيما استطاع توحيد الصفوف وتجاوز الخلافات الطائفية والقبلية و لذلك كان زعيما استثنائيا ترك بصمته على مجرى التاريخ.
فلقد تجلى دور معاوية في بناء الدولة الإسلامية منذ بداياتها، إذ أدرك أهمية تركيز السلطة في يد جهة واحدة قادرة على ضمان استقرار الدولة ومواجهة المشاكل الخارجية والداخلية. وإذ كانت رؤيته السياسية متجددة، فانه اعتمد على أسس عملية في إدارة شؤون الدولة جمعت بين الحكمة العسكرية والحنكة الإدارية. ومن هنا، لم تكن قيادته مجرد حملة عسكرية بل منهجية سياسية حملت في طياتها فكرة الدولة الحديثة، إذ هو من صاغ نظام الحكم الذي استمر تأثيره عبر القرون.
لنخلص إلى أنه يجب أن نعيد النظر في التاريخ الإسلامي بعيدا عن الروايات المشوهة والسطحية، لنستخلص العبر والدروس من شخصية عظيمة مثل معاوية بن أبي سفيان.