مأرب ومحنة المواطن اليمني: خديعة الدولة المدنية الحديثة

منذ بدايات الحلم بالوطن الواحد، كانت فكرة الدولة المدنية الحديثة هي الوعاء الذي جمع الآمال والأحلام للمستقبل الأفضل. بل كان الحلم اليمني أن يعيش المواطنون في وطن خال من التقسيمات، تتسع فيه الحدود لكل يمني من أي محافظة كانت، دون أن يعترضهم حاجزٌ من الحواجز السياسية أو الأمنية. من هنا كان الأمل يزداد بريقا في بداية الألفية، مع دخولنا في عصر التغيير والتجديد، لكن ما يحدث اليوم في مأرب ينقض هذا الحلم بشكل حاد. فاليوم، يقف المواطن اليمني على عتبة الحيرة والتساؤل، فهل هذه هي الدولة المدنية التي حلمنا بها؟

والواقع أن الغربة ليست فقط في هجرة الشخص إلى الخارج بحثا عن لقمة العيش أو الأمان، بل الغربة الحقيقية هي أن يشعر المواطن بالاغتراب داخل وطنه. هذا الشعور بالانفصال عن وطنه، الذي كان يظن أنه ملك للجميع، يعكس مرارة الواقع. فكيف لليمني الذي عارض الحوثيين منذ بداية الأزمة، الذي دفع ثمنا غاليا من أجل كرامته ووطنه، أن يُمنع من دخول مأرب، هذه المدينة اليمنية العريقة؟ بل هل أصبحت المحافظة مقسمة على أساس الولاءات السياسية، أم أن هناك إرادة خفية تحول دون وحدة الوطن؟ فالأسئلة تتزايد بمرارة، وشيء واحد فقط يبدو واضحا: الغربة لم تعد في الخارج، بل في الداخل.

وهكذا فإن أولى خيبات الأمل التي تصطدم بها هو مفهوم الدولة المدنية الحديثة، التي لا يُفترض أن تميز بين أبناء الوطن، ولا أن تفرض عليهم قيودا تعسفية في السفر والتنقل. نعم ،كيف يتم الحديث عن دولة مدنية فيما يُطلب من المواطن اليمني إذنا أمنيا لزيارة محافظة يمنية؟ بل ألا يُفترض أن تكون الحدود مفتوحة بين المحافظات اليمنية؟ وأعني:أين هي المساواة التي يُفترض أن توفرها الدولة لكل أبنائها؟

وإذن: هل نحن نعيش في دولة مدنية أم في دولة تقيد الحريات وتمنع المواطن من التنقل داخل وطنه؟ على أن هذه المفارقة تجعلنا نتساءل: هل النظام الحاكم لا يزال ينتهج أساليب قديمة تعزز التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، أم أن الأجندات السياسية الضيقة هي التي تسيطر على الواقع اليوم؟ فيما يبدو أن هناك انقطاعا حادا بين الوعود التي قدمتها الدولة وبين ما يراه المواطن على الأرض.

على أنني أقول لكم إن المساواة هي جوهر العدالة في أي مجتمع مدني. لكن، أين هي هذه المساواة في الواقع اليمنية الان؟ فهل يمنع جيش تعز أبناء المحافظات الأخرى من دخول تعز؟و هل يشترط جيش المخا على اليمنيين إذنا أمنيا لزيارة المخا، وهل يشترط جيش عدن على اليمنيين إذنا أمنيا لزيارة عدن بالطبع، لا. ولكن لماذا تُفرض هذه القيود على دخول مأرب؟ لكن: هل هذا التمييز في المعاملة مقبول في دولة يفترض أنها تقوم على المبادئ الأساسية للمساواة والعدالة؟ أم أن مأرب أصبحت عنوانا لممارسات تمييزية تجاه بعض المواطنين في اليمن؟

والحال أنه من خلال هذا الواقع المأساوي، يتساءل المواطنون: هل بدأنا نعيش في منظومة فوضوية تقوم على التقسيمات التي لا أساس لها من المساواة؟ ام هل نحن أمام واقع مزاجي جديد يعيد تشكيل هوية الوطن؟

صدقوني ليس أسوأ من أن يعيش المواطن اليمني هذا الوضع، الذي كان يظنه بعيدا عن وطنه الذي لا يعترف بالحدود داخل أراضيه. كان الحلم أن يعيش اليمني في دولة قائمة على العدالة والمساواة، لكن الواقع اليوم يقول إن اليمن ليس سوى أرض للانقسامات والنزاعات. فأن يتم فرض قيود على دخول مأرب، وهذا هو السؤال الجوهري، يعني أن هناك من يتلاعب بالحلم الوطني، ويضعف من الأسس الوطنية التي قامت عليها الدولة الحديثة التي كنا نحلم بها.

كذلك فإن ما هو أفظع من ذلك أن المواطن الذي ناضل ضد الحوثيين، الذي كافح لأجل كرامته ووطنه، يجد نفسه اليوم يعامل كمشتبه فيه. طبعا لا أحد يمكنه أن يقبل أن يتم تهميشه بهذا الشكل، خاصة عندما تكون الأسباب غامضة وغير مفهومة.بل لم يكن هذا ما وعدنا به يوما. كنا نؤمن بوطن واحد يسع الجميع، ولكن يبدو أن الفجوة تزداد، وأن الدولة المدنية أصبحت مجرد شعار فارغ.

فيا مأرب، التي كانت دائما تمثل أيقونة للمقاومة والصمود، كيف تصبحين اليوم مرآة تعكسين واقعا مريرا بعيدا عن الحلم. فيما يظل المواطنون يواجهون تحديات غير مبررة، والأمل في الوصول إلى مأرب، أيا كانت الأسباب، يتبدد في ظل القيود الأمنية والتفرقة التي يتم فرضها على أبناء الوطن الواحد. نعم ،كيف أصبح المواطن اليمني اليوم ضحية لهذا التفرقة، وهذا الفشل في تحقيق الحلم المدني؟

بل وفي خضم هذه الأسئلة، يتضح لنا أن المشكلة ليست في وجود القوانين أو الإجراءات الأمنية، بل في غياب العدالة والمساواة بين أبناء الوطن.ومن هنا، يظل السؤال مطروحا: كيف يمكن لنا أن نحقق دولة مدنية حديثة، ونحن لا نزال نعيش في وطن يتم فيه تمييز المواطنين بناء على انتماءاتهم السياسية أو الجغرافية؟

صدقوني أيضا لم يعد الأمر يتعلق بزيارة مأرب أو دخولها، بل أصبح رمزية لما آلت إليه أوضاعنا. ذلك إن الوطن، الذي كنا نأمل أن يكون ملاذا لنا، تحول إلى ساحة للصراع والتفرقة. بل إن المواطن الذي يفتقد للأمل في وطنه يعجز عن فهم كيف تكون هذه النهاية لما حلم به من دولة العدالة والمساواة. لكن يبقى الحلم، في أن يوما ما قد يستعيد اليمن معناه الحقيقي..ولن نيأس.

وبالتأكيد وفي سياق الحديث عن مأرب وتقييد حرية التنقل للمواطنين اليمنيين، تظهر مفارقة مؤلمة في مفهوم الدولة المدنية الحديثة التي كنا نحلم بها. يقولون المطلوب إذن أمني مسبق لدخول المحافظة، وهو ما يعكس نوعا من التمييز بين أبناء الوطن الواحد، خاصة حينما لا تُفرض ذات القيود على دخول محافظات أخرى مثل تعز أو عدن. على أن هذا الواقع يحطم الحلم في دولة مدنية تقوم على العدالة والمساواة، ويثير التساؤلات حول غياب المساواة والممارسات العنصرية التي قد تكون وراء هذه الإجراءات. فيما يبدو أن اليمن، الذي كنا نطمح فيه إلى الوحدة، أصبح ساحة للتفرقة والتمييز فقط.