تحولات جذرية في الوعي السياسي العربي: بين الجمود والنهوض المأمول...

في تاريخ طويل من الأزمات والنزاعات، يواجه العالم العربي اليوم تحديات غير مسبوقة على جميع الأصعدة. 
فالمشاهد السياسية المؤلمة، من بينها تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب حول تهجير الشعب الفلسطيني، ما هي إلا تجسيد صارخ لمؤامرات استعمارية جديدة على المنطقة.
على أن هذه النوايا الشريرة تعكس بشكل صارخ هشاشة الوعي السياسي العربي، وهو وعي ظل أسير عقليات سلطوية تتلاعب بها الأهواء الشخصية وتغرقها في خصومات سياسية غير مبررة.
لذلك تبدو الصورة التي يطرحها الواقع السياسي العربي اليوم مظلمة جدا، فلا يمكن تجاهل أن الأزمات المستمرة والشديدة التي تعصف بالأمة العربية منذ عقود، قد انعكست في تراجع الوعي الجماعي وقدرة الشعوب على إحداث التغيير الحقيقي. 

فبينما يشهد العالم معارك فكرية سياسية ناضجة تقودها الأمم الأخرى نحو عصر جديد من التسامح والحداثة، يعيش العرب في حالة من الشلل السياسي الذي لا يجد مخرجا. 

فالعقل السياسي العربي، في الكثير من الأحيان، أصبح عاجزا عن الابتكار والتغيير، حتى إن الأحزاب السياسية والنخب الحاكمة تبدو أكثر اهتماما بصراعاتها الداخلية والولاءات الضيقة أكثر من اهتمامها بمصير الأمة ومستقبلها.

والشاهد أنه منذ أن بدأت القوى الاستعمارية، ولا سيما الإمبريالية الأمريكية والروسية والص..هيونية، في تنفيذ مخططات تقسيم المنطقة والسيطرة على ثرواتها، وجد العرب أنفسهم في موقف ضعف سياسي غير مسبوق.
 أما روسيا، فقد أصبحت واحدة من القوى الكبرى التي تتحكم في مصير المنطقة من خلال تحالفاتها الاستراتيجية مع بعض الأنظمة.
 وقد أدى هذا الانقسام في الولاءات والتوجهات إلى تعزيز انفراد هذه القوى الاستعمارية بمقدرات الأمة العربية، والتي باتت تُحكم وفق مصالح خارجية مهيمنة.

لكن الأمر الذي لا يمكن تجاهله هو أن الأزمة ليست فقط في القوى الخارجية التي تستعمر الأرض والسيادة، بل تكمن في النظام السياسي الداخلي في معظم الدول العربية. 
طبعا هذه الأزمة العربية الحالية المتمثلة في مجموعة من التحديات السياسية والاجتماعية التي تداخلت بشكل مخيف، جعل من الصعب إيجاد حلول جذرية لها. 
فأبرز ملامح الأزمة تتمثل في غياب الوعي السياسي الفاعل، كما اتفقنا إذ تهيمن على العقل السياسي العربي العقلية السلطوية التي تقتصر على إدارة السلطة بفشل ذريع وبلا خيال سياسي بدلا من بناء استراتيجيات فكرية مستقبلية تتماشى مع متطلبات العصر. 
إضافة إلى ذلك، تعاني النخب السياسية من مصالح شخصية ضيقة، ما يعزز حالة الانقسام والفرقة داخل المجتمعات العربية. إذ تتغذى هذه الانقسامات من خلال الصراعات الإيديولوجية التي لا تقدم حلولا حقيقية لمشاكل الأمة، بل تزيد من تعميق التوترات والعداوات الداخلية.

كما أن الأحزاب السياسية، بدلا من أن تكون أدوات للتغيير والنهوض، أصبحت في الكثير من الحالات خاضعة لخطابات ثأرية وصراعات غير مبررة، تجعلها عاجزة عن تقديم حلول فعالة لشعوبها. وهذا يؤدي إلى استمرار الهيمنة الاستعمارية الجديدة، سواء من القوى الغربية أو الإمبريالية الروسية، على المنطقة، مما يفاقم من أزمة الهوية والسيادة العربية. على أن الأزمة العربية تتلخص في أزمة عقل سياسي معطل، يقبع في دوامة المصالح الضيقة والخلافات الداخلية، مما يجعل التغيير أمرا بعيد المنال لكنه الضرورة القصوى في الحاضر من أجل المستقبل الأفضل.
فالواقع أن النخب الحاكمة، التي كانت تروج لمفاهيم وطنية، أصبحت في الغالب تمارس سياسة خالية من أي رؤية استراتيجية، حبيسة لمصالحها الشخصية. أما الأحزاب السياسية، فغالبا ما تقع في فخ الصراعات الإيديولوجية والتكتيك السياسي  الانتهازي الذي لا يمت إلى هموم المواطن العربي بصلة. 
ولذلك فإن حالة التناحر هذه، سواء كانت بين الأحزاب أو بين النخب السياسية، تُسهم في إعاقة أي إمكانية لإيجاد حلول جذرية للمشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع العربي، بما في ذلك القضية الفلسطينية.
من هنا تكمن أكبر الإشكاليات، لأن النخب السياسية العربية تكاد تفتقر إلى أي خيال سياسي أو رؤية واضحة للمخاطر.

 وفيما يضج العالم الغربي بالمفكرين الذين يطرحون حلولا جذرية لمشاكل الإنسانية، نجد أن النخب العربية لا تزال مشغولة بتصفية حسابات قديمة تعود إلى فترات تاريخية بعيدة، على حساب قضايا الأمة الحقيقية. 
بل وبدلا من أن ينظر السياسيون العرب إلى التحديات الكبرى التي يواجهها العالم العربي، يقتصر همهم على الحفاظ على السلطة والامتيازات الخاصة.
كذلك فإن هذا الجمود الفكري والسياسي سيظل من أكبر أسباب استمرار الأزمات في العالم العربي.
ففي ظل غياب الرؤى السياسية القادرة على تحقيق التغيير، يبقى المواطن العربي فريسة للمزيد من الاضطهاد السياسي والاجتماعي، وهو ما يزيد من حالة الإحباط التي يعاني منها المجتمع.
ولننظر مثلا إلى ما طرحه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو عندما تحدث عن "التسامح" كأحد أسس الحداثة. 
فإذا كانت المجتمعات الغربية قد بدأت، وإن بتفاوت، في تبني هذه المبادئ وتطويرها،خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية فإن العالم العربي، للأسف، لا يزال أسيرا للتعصب والعداء الداخلي بين مختلف الفرقاء السياسيين. 

والحال أن هذه النزاعات، التي لا تفضي إلى أي نتيجة ملموسة، تزيد من فوضى الوضع العربي، وتضعف فرص بناء أي مشروع عربي موحد قادر على مواجهة الاشكاليات الكبرى.
ولكن لقد آن الأوان للاعتراف بأن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر، وأن هناك ضرورة لتحولات جذرية في الوعي السياسي العربي. 

بل إن هذا التحول يجب أن يشمل إعادة بناء الفكر السياسي العربي على أسس من التسامح والاحترام المتبادل، بعيدا عن الأيديولوجيات المتصلبة والخصومات الفارغة. كما يجب أن تسعى النخب السياسية العربية إلى تجاوز الصراعات الشخصية والنزاعات الثانوية لمصلحة الأمة.
بمعنى آخر تحتاج الأمة العربية الآن إلى مفكرين وقادة سياسيين قادرين على التخلي عن أساليب السلطة القديمة، والنظر إلى المستقبل بعين التغيير والتطور. 
غير أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتشجيع الشباب العربي على المشاركة الفاعلة في الشأن العام، وتطوير التعليم والتفكير النقدي الذي يعزز الوعي السياسي الصحيح. 
أما إذا لم يحدث ذلك، فسيظل العرب في دائرة لا تنتهي من التبعية السياسية، التي تجعلهم رهائن للمصالح الأجنبية ومشاريع الهيمنة العالمية.
بالتالي، فإن الطريق إلى النهوض يبدأ من تغيير العقليات الحاكمة والأحزاب السياسية التي فقدت بوصلتها السياسية، لتصبح أداة مصالح انتهازية في خدمة مصالح خارجية أو مصالح شخصية ضيقة. فيما وحدها هذه التحولات الفكرية والسياسية الجذرية قد تكون المخرج الوحيد من الأزمات المتراكمة.
والخلاصة إن الإشكالية العميقة التي يواجهها العالم العربي اليوم هي إشكالية عقول ونخب، لا إشكالية قوى خارجية فحسب. لذلك نحن حاليا نعيش بين الجمود وتطلعات النهوض المأمول.