ليلة ولا بالأحلام؛ فرقتنا السياسة وجمعتنا الثقافة.. 


بروفيسور / قاسم المحبشي..

كان الشاب الجامعي الجميل محمد العيسائي يقود السيارة في الخط الدولي الطويل. كنا أربعة الزعيم ابو الصمود وأنا وخريج الإعلام الجديد، أحمد دبوان، وحامل الاسم واللقب عيسائي العيسائي، أصغرنا سنا. انطلقنا الضيعة في الثانية بعد الظهير ، هم جاءوا لي  بغرض أخذي معه إلى عزومة في منزل الأخ آلعزيز، عبدالرحيم البعسي في مدينة نوتردام الشهيرة على بعد ساعتين ونصف. ربما تأخرنا على موعد الغداء المحدد في الساعة الثالثة. وصلنا وكان الشاب الخلوق توفيق الجهوري في انتظارنا بجانب العمارة. مدينة هادئة مرتبة تذكرك بخور مكسر في الزمن الجميل. صعدنا طابقين فقط فإذا بي أدخل شقة صغيرة مكتظة بالحياة والأشخاص بحجم الوطن كله . اكثر من أربعين شخص معظمهم من  جيل اولادي عداء  طفل صغير في عمر أحفادي يحفظهم ويحفظه ربي.استقبلنا صاحب الدار الكريم..

 عبدالرحمن البعسي ، من عائلة البعسي اليافعية الكريمة بحفاوة وأخذنا إلى غرفة داخلينا لتناول وجبة الغداء ؛ الزربيان العدني على اصوله وبنت الصحن الصنعانية على أصولها. من الذ ما تذوقته مع حلويات الكنافة والشكلاطة بالفستق. ونحن منهمكين في تناول الغداء سمعت احد الشباب في الصالة يتوجع من آلم مفاجأ في معدته ! كان يتلوى من الآلم . رجل بدين جدا . وكان الشباب حوله يضربونها أخماس في أسداد! اصابهم الخوف والقلق على صديقهم ولا يدرون ماذا يفعلون له؟ وبعد مرور عشرة دقائق فقط حضرت سيدة وزميلها بسيارة الإسعاف الهولندية. فحصته وهدأت من روعه واخذته إلى المستشفى وبعد ثلاث ساعات عاد بكامل صحته وعافيته مع طفله الحلو الذي يشبهه. طبعا بعد أن تناولنا الغداء والحلوى تم ترتيب المقيل في صالة الاستقبال الصغيرة التي اتسعت لكل ابناء اليمن من حضرموت إلى ذمار ومن عدن إلى المحويت..

 أكثر من أربعين  شخصا في صالة تبدو صغيرة جدا في مقاييس اليمن  التي يردد اهلها المثل الشعبي  حينما يضيق المكان بالقول ( النسم بالقلوب، أو النفس بالقلوب!)..

لأول مرة في حياتي أشاهد معنى هذه المثل الشعبي متحققا في الواقع .لم يشعر أحد من ضيق المكان أبدا ، ولا اعرف كيف تدبر كل واحد من الاشخاص مكانه بهدوء وسلاسة وفرح ومودة دون أن يعرفوا بعضهم مسبقا ودون أن يسأل احدهم الذي بجانبه من أين انته؟ اتدرون لم سقط اهتمامهم بالمرجعيات التقليدية الفعالة في اليمن والبلاد العربية( الحسب والنسب والعشيرة والقبيلة والطائفة والدين والدولة وكل دوائر الهويات التقليدية ومداراتها الكثيرة التي تكبل الناس في المجتمعات العربية والإسلامية وتحيل إلى شظايا متنافرة) في البلاد المنخفضة لا شيء من تلك الهويات له قيمة ومعنى هنا. كن من تكون؟ ومن أين تكون ؟ كن ذكرا أو أنثى حتى من قريش ذاتها ومن بيت هاشم بن عبدالمطلب ذاته ! فانت هنا في هولندا -الدولة المملكة العلمانية الديمقراطية العادلة- إنسان تستحق الرعاية والحماية والكرامة والحرية والأمن والأمان والقيمة والاعتبار بهذه الصفة( إنسان) الصفة الوحيدة الفعالة فقط..

 تلك هي هولندا الرحيبة بقلبها الكبير وشعبها الكريم وقيمها الإنسانية الراقية هولندا الغنية ليس بثرواتها النفطية والمعدنية بل هي غنيها بتقاليدها التنظيمية السياسية المدنية وقيمها الأخلاقية الحضارية وسماحة ونبل شعبها الكريم الذين يشبهون الملائكة بتعاملهم مع غير من الذين يشبهونهم بالشكل فقط. وحينما تقيم في بلد وبين سكانة الأصليين ولا تشعر أبدا باي تنمر وتمييز أو تبرم واحتقار فاعلم أنك في أم الإنسانية التي شرب الجميع من حليبها..

 هولندا التي لا يبات فيها كائنا حيا جائعا فيها ولا ينام كائن في شوارع؛ كل الكائنات الحية لديها في هولندا فقط بيوت تأويها بما في ذلك الوافدين الجدد. إذ ينص القانون الهولندي على منح كل لاجئ سكن وإعاشة من أول ما تطأ قدميه هولندا بدون تمييز.تاك هي هولندا التي لا تتجاوز مساحتها حجم مساحة محافظة يمنية  واحدة إذ تبلغ مساحته المملكة الهولندية ٤٠ الف كيلو  وتأوي ٢٠ مليون من المواطنيين والمقيمين  وملايين ال من الانعام ( بقر، وأكباش وأغنام وخيول وبغال وغزلان وخنازير  وفيها مزارع وحدائق على مدى الأبصار وفيها مراعي وغابات وسفن وجسور وطيارات وقطارات وسيارات ودراجات وعربات واجهزة لا تعد ولا تحصى ..

في الساعة السليمانية حلقت بخيالي بعيدا جدا  وأنا اتأمل في هذا المشهد العامر بالحياة والكرم والفرح والفن والجمال اليمني في قلب المملكة الهولندية التي  منحت كل من دخلها الأمن والأمان والسكن والعمل والأمل. طبعا كانت لحج الخضيرة وقلبها النابض الوهط الخصيبة التي واحتنا الظليلة في تلك الأمسية الاجتماعية الثقافية الفنية الباذخة  بالسحر والجمال. نجمها هو الفنان عبدالله حسن السقاف والفنان اللحجي صالح الحجيلي والفنان الكتور عمر السقاف من حضرموت والفنان  وليد بن مخاشن من عدن وغيرهم من الشباب الجميلين جدا. استمعنا إلى اغاني من كل الوان الفن اليمني
( الحضرمي، اللحجي، اليافعي، والتعزي الصنعاني، الخليجي)..

 حينما نظرت إلى ساعتي وقد جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل انذهلت من كيف مر الوقت بهذه السرعة دون أن اشعر به ؟! ليلة ولا بالأحلام أعادتنا إلى زمن الشباب حيث تذكرت أيام الدراسة الثانوية في لحج الخضيرة تلك الأمسيات الفنية التي كان يحييها الموسيقار العدني الراحل أحمد بن أحمد قاسم والفنان اللحجي الشهير، فيصل علوي والفنان الخالد، محمد سعد عبدالله والفنان الراحل، محمد مرشد ناجي، والفنان الأستاذ، محمد صالح حمدون الذي درسني في الابتدائي والفنان حسن عطا والفنان الزيدي  وغيرهم..

 استمعنا إلى اغاني قمندانية وأغاني محمد سعد عبدالله وأغاني حضرمية وأغاني يحيى عمر اليافعي وأغاني الحارثي وابواب طارش عبسي وغيرهم. وانا اشاهد واستمع واتأمل تلك الحفلة الرائعة ماذا منحتها من معنى؟..

حينما يفقد الناس أوطانهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، تبقى الثقافة هي من تحملهم ويحملونها في حلهم وترحالهم بمثابة وطنهم البديل بها يستحضرون أطياف أوطانهم الحبيبة وعلى أجنحتها يحلقون في الفضاءات الرحيبة، فضلا عن أن الثقافة هي النافذة الممكنة للتواصل والتعارف والتفاهم والحوار في هذا الكوكب الإنساني الذي بات شديد التقارب والانكماش. والتراث هو محور كل ثقافة ومعينها الذي لا ينضب، ففيه تستودع الشعوب قيما وعاداتها وتقاليدها وأنماط حياتها ورموزها التي تتجلى أساليب الطعام والأزياء والفنون وعادات الزواج ومراسم الاحتفالات وكل ما يسمى بالفولكلور الشعبي.ولا تموت الشعوب التي لديها ثقافة متجددة وقابلة للحياة في كل زمان ومكان ...

هنا في قلب أوروبا الأطلسية الباردة ودرجة الحرارة عند الصفر اجتمعنا على وجبة الزبيان العدنية اللذيذة ووجبة الثقافة الفنيّة الأحجية الباذخة بالروح الأيجابية والفرح والجمال. ومن مفارقة الخراب الذي أصاب الوطن..

اليكم تلك الحكاية الموجعة: 
وانا اتأمل في وجوه الحاضرين في الأمسية ، احسست وكأنها مألوفة لي  أحدهم سألني عن مكان سكني في عدن؟ قلت له ؛ في الكورنيش ، حي السعادة . قال لي: أنا من حي السعادة بقرب الكورنيش وابن الشهيد فلان أبن فلان ، تذكرته فورا وتذكرت أنني علمت اخوه عبداللطيف في ثانوية عبدالباري بخور مكسر  وأخبرني بان الفنان حسن عبدالله السقاف هو ابن حارتنا ، منزله مقابل بقالة الثرياء فأحسست بحالة من الوجع والحسرة من هذا الموقف المفارق ها أنا وقد اوشكت على الستين من عمري التقي في المنفى شباب من حارتي وقد بلغوا الثلاثين من أعمارهم واحدهم كان يسكن في بيت خشبي بجوار منزلي بكورنيش البحر العرب في عدن ولم نعرف بعض إلا في هولندا التي جمعتنا كيفما اتفق بالصدفة البحتة إذ جاء كلا منّا اليها بمفرده وبدوافعه وأسبابه وحكايته. فما أجمل الدول العادلة والمستقرة ودولة هولندا الحاضنة اليوم هي ذاتها التي وصفّها إسبينوزا في كتابة السياسة واللاهوت إذ كتب " ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات (كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه....

 أن غاية الدولة حقاً هي الحرية" واثناء استماعي إلى صديقي المهندس المثقف الهولندي الجنسية دكتور حسين جعفر السقاف وهو يتحدث عن تجربته الطويلة في هولندا تبينت إن الفلسفة هنا تعاش حقا وفعلا في الحياة اليومية للناس. وهذا ما جعلني اعيد التفكير في وظيفة الفلسفة برمتها. واليكم ما الشاهد والدليل ..