أقصوصة : شال قرمزي ...

أقصوصة : شال قرمزي ...

منير الجابري ...تونس

نظر اسماعيل من حوله ثم جلس بصعوبة واسند ظهره إلى صندوق ملقا بالقرب منه٠اشعل سيجارة وهو يلتفت يمينا وشمالا حتى لا ينتبه إليه أحدا؛ فمنذ ساعات الفجر الأولى وهو يعمل ٠تسللت الي أنفه روائح الجلود التي تنبعث من كل ركن

فهو قد أمضى أكثر من سنتين وهو يعمل بمدبغة الجلود؛ التي مازالت تعمل بالطرق التقليدية مما يتطلب منه مجهودا استثنائيا ٠رغم انه شاب لم يتجاوز العقد الثالث من عمره ٠بشرته سمراء ؛طويل القامة ٠قدم من بلده التشاد الي المغرب وكان حلمه الوحيد السفر إلى أسبانيا ٠

اشتهر بين زملائه بتفانيه في العمل وشخصيته المرحة ٠

رن جرس المصنع عند الساعة الخامسة مساءا ٠فاستعد كعادته لمغادرة المدبغة ٠

فجأة أقبل صاحب المدبغة وطلب منه مواصلة حصة العمل إلى منتصف الليل _:نحن في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر وهو يمثل ذروة عملنا؛ حتى نستطيع تلبية طلبات الزبائن!!

وانتابته موجة من الغضب وقال في نفسه

_:كيف ستمضي هاته الليلة وقد اشتد البرد؟!!

نظر من حوله فوجد فوضى عارمة تعم المدبغة؛ الجلود متناثرة في كل مكان وقد كانت مهمته ترتيبها وتنظيمها

بغتة جلب سمعه ضجة تنطلق من باب المدبغة؛ أسرع الخطى حتى يكتشف الأمر ٠

وجد فتاة ملقاة على الأرض جراء دفع الباب لها لحظة مغادرتها وذلك بفعل الرياح القوية ٠

ابتسم لها ومسك يدها حتى يساعدها على النهوض ٠

حدقت في عينيه بنظرة جريئة ورسمت على شفتيها ابتسامة ساحرة ٠تفحص ملامح وجهها عن كثب

ضغطت الفتاة على يديه ٠فارتعشت فرائسه وبدأ له جيدها طويل حين خلعت الرياح شالها القرمزي ٠

رغم اكتناز جسدها؛ تمكن من مساعدتها على الوقوف؛ غادرت المكان بسرعة ٠

عاد على إثرها اسماعيل الي موقعه وهو يفكر في الفتاة؛ التي حركت فيه ذكرى أليمة ٠ حين همس اليه صدى صوت زوجته التي توفيت اثناء رحلتيهما الي المغرب ٠فهي تعرضت لحادث اليم؛ مما ترك لوعة والم كبير لديه ٠

انغمس في العمل وهو في حالة شرود تام ٠

فكلما لامست يده يد أنثى؛ يعود ذلك المشهد بقوة ٠

فجأة اقبل عليه حارس المدبغة ومده بكأس شاي ساخن وتطلع اليه ثم قال _:عندما جلسنا آخر مرة في المقهى كنت مصرا على الهجرة السرية!!!

_:لم اتمكن من جمع المبلغ!!!

_:لم أفهم سبب رغبتك الجامحة في الهجرة؟!!

_:وما حيلتي فانا في أشد الحاجة إلى حياة افضل؟!!

_:لقد سمعت قصصا مأساوية عاشها كل من القى بنفسه في مواجهة أمواج البحر العاتية!!؟

_:لكني مجبر على ركوبها!!!

سمع الحارس أزيز سيارة بغتة يقترب من باب المدبغة فأسرع لاستطلاع الأمر ٠

بقي اسماعيل في حيرة من أمرها تتقاذفه أفكار وهواجس الهجرة وقد تأثر بما ردده الحارس

وشيئا فشيئا تخلص من التفكير في مغامرة ركوب أمواج الخطر؛ فقد شغلت فكره صاحبة الشال القرمزي

الكاتب والقاص والروائي :منير صالح الجابري