حضرموت التي لم يفهم العرب شفرتها؛ ازدهرت هناك..

حضرموت التي لم يفهم العرب شفرتها؛ ازدهرت هناك..

•• استاذ دكتور / قاسم المحبشي..


 استاذ دكتور / قاسم المحبشي..

(أرض الأمجاد حضرموت، كل من غزاها يموت) 

وأنا أقرأ، ترجمة، صديقي اِلدكتور، سعيد الجريري لمسرحية فاطمة بعنوان: " مسرحية عربية - إندونيسية مثيرة للجدل" في مجلة حضرموت الثقافية، العدد 33، يوليو سبتمبر 2024م. إذ ترجمها عن الكاتب الهولندي، هوب دي يونج إذ جاء في مستهلها " كانت المسرحيات مبنية على النمط الأوروبي، ولم تكن لها علاقة تذكر بالأشكال التقليدية للمسرح والترفيه الخاص بهذه الفئات السكانية. وتكتب بقلم أحد أفرادها الموهوبين، ويؤديها ممثلون يتم اختيارهم منهم. وكان لكل جماعة مؤثرة من المنظمات السياسية أو الاجتماعية مسرح خاص بها، مُستوحى من نظيراته الأوروبية، إلى جانب ناد رياضي ونادي نسائي، وأحيانا حتى فرقة طبول .في هذه الدراسة أود أن أتطرق إلى مسرحية "فاطمة"، التي عُرضت في سيمارانج عام 1938م في المؤتمر الثالث لاتحاد عرب إندونيسيا..

ففي أواخر الثلاثينيات، كان يعيش في المستعمرة أكثر من 70.000 عربي، منهم حوالي 50.000 في جاوة، وينحدر كلهم تقريبا من حضرموت، وهي منطقة فقيرة في جنوب الجزيرة العربية. وكان أكثر من ثلثيهم، من عرب إندونيسيا (المولدين)، والبقية من العرب التوتوك (الولايتي) ويضيف إلى حوالي عام 1920م كانت العلاقات الاجتماعية، بين شرائح الأقلية المنغلقة على نفسها هناك، انعكاساً للتراتبية الطبقية، في الوطن الأم حضرموت، القائمة على النسب. فالطبقة العليا تتكون من السادة، نسل النبي محمد، تليها طبقة المشايخ، نسل النخبة الدينية البارزة، الذين زحزحهم السادة تدريجيا عن الصدارة. وتتكون الطبقتان الثالثة والرابعة على التوالي من القبائل (المسلحة)، والمساكين..

وهناك حدود صارمة بين الطبقات. فعلى سبيل المثال، لم یكن مسموحا للمرأة بالزواج مطلقا بمن هو أدنى منها حسين بافقيه، مؤلف مسرحية فاطمة منزلة، وكان السيد يستقبل دائماً بقبلة على اليد (2) في الثلاثينيات، نشبت توترات متعددة داخل المجتمع العربي ( الحضرمي في الأرخبيل الهندي) وكانت العروض المسرحية، كما ذكرنا، إحدى وسائل تحفيزوخاصة بين السادة، والمشايخ (كما كان يُطلق على غير السادة تحرر مؤيديهم والمؤيدين المحتملين. وكانت " فاطمة " في المستعمرة)، وبين العرب التوتوك، والمولدين، الذين نظموا هي المسرحية الثانية التي تُعرَض في مؤتمر اتحاد عرب إندونيسيا. أنفسهم في جمعيات مختلفة. إذ رفض عدد من المشايخ وتتكون من ثمانية فصول متفاوتة الطُّول، مكتوبة بلغة الملايو. إبداء مظاهر التوقيرالتي يتمتع بها السادة في حضرموت. وقد ألفها، بناءً على طلب الهيئة العليا، الصحفي حسين بافقيه، واتهم التوتوك بشكل متزايد المولدين بالميل عن القيم العربية، وهو مؤلف مسرحية سابقة عنوانها (قربان عادات)(3). وتبنّي نمط حياة إندونيسي، وأنهم أكثر ولاء لأرض أمهاتهم كانت الهيئة راضيةً جداً عن المضمون، لدرجة أن عُرضت نسخة تجارية من النص للبيع في المؤتمر. واستقبل مناصروا اتحاد  الشباب العربي... يقدم مضمون المسرحية صورةً مثيرة عن اهتمامات المجتمع العربي وإخفاقاته في سنوات ما قبل الحرب. ويبين ما كان يدورفي أذهان أفراد المجتمع، ويُعد ضروريا لحل تلك المعضلات وهي رؤى لم يتقبلها الجميع في أوساط الأقليات الأجنبية) " ينظر، سعيد الجريري, مسرحية عربية - إندونيسية مثيرة للجدل، مجلة حضرموت الثقافية، العدد 33، يوليو سبتمبر 2024م المكلا، ص1)...

بالنسبة لي تلك الترجمة لمسرحية كتبها مهاجر حضرمي اسمه ( حسين بافقية) مقيم في اندونيسيا قبل أكثر من مئة عاما 1920م  وترجمها عن الاندونيسية إلى الهولندية مواطن هولندي في أمستردام عام 2024م ثم يقوم أكاديمي حضرمي مقيم أمستردام بترجمتها من الهولندية إلى العربية ونشر الترجمة في مجلة ثقافية وأدبية عربية محكمة تصدر في المكلا فهذا عندي له الف معنى ومعنى. تلك لحظة تجلي الدراسات الثقافية والنقد الثقافي بامتياز؛  أقصد  الدراسات الثقافية بوصفها نسقا معرفيا جديدا في حقل المعرفة الإنسانية إذ أخذ يتموضع على تخوم السرديات التقليدية للآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية  فبدلا من الأدب والفن الرفيع حل الاهتمام بالآداب والفنون الشعبية وبدلا من دراسة المجتمعات والطبقات الاجتماعية والمؤسسات الرسمية أنصرف الاهتمام إلى البحث في الجمهور والعلاقات والأنساق المتخفية. نعم ازدهر هذا النمط من الخطاب وذلك بعد الأزمة النظرية والمنهجية التي واجهتها العلوم الإنسانية والاجتماعية ومازالت بإزاء تحديات وأسئلة ومشكلات لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها الطويل، وهذا ما يشف عنه القلق المتزايد الذي أخذ ينتاب علماء الإنسانيات والاجتماع في المجتمعات الغربية، بعد أن أحسوا بعجزهم إزاء ما يشهدونه من تحولات وظواهر جديدة لا عهد لهم بها، وليس بمقدور نماذجهم المعرفية التقليدية الإحاطة بها وفهم دلالاتها. وهكذا سوف تكشف هذه المسرحية عن المشكلات الجديدة التي واجهتها الأجيال الجديدة من المهاجرين الحضارمة اندونيسيا..

جاء في الترجمة تعريف ببطلة المسرحية  " فاطمة هو اسم الابنة الصغرى للتاجر الموسر ناصر بن عمر الشعيبي (4) الذي يشتد به المرض، وإذ يشعر بأن أجله يقترب يقرر قبل وفاته تزويج ابنته بمختار، معلم اللغة العربية، الذي كان معجباً جداً بها. ورغم أن أولاد العائلات الثرية يصطفون للاقتران بفاطمة، لكنَّه يُفضّل مختاراً الفقير، لكن المؤتمن، الذي تتلمذت ابنته على يده، ويتوقع أن تسعد . ولأنها لما تزل طفلة، فقد عقد قرانها، على ألا يباشرا الحياة معاً إلا حينما تبلغ الفتاة سن الزواج. وإلى ذلك الحين، سوف تستمر فاطمة في العيش مع والدتها، وسيتم وضع ميراثها الكبير في دار الأيتام القصر ، التي وضع فيها ناصر أيضاً تركة ابنه الذي أنجبه في سن مبكرة من امرأة بوجينية في إحدى الجزر الشرقية للأرخبيل الإندونيسي، لكنه هجرها بـعـد ويدمر العمل التجاري فعلاً. فالدائنون يصطفون في طابور وقت قصير من ولادته..

 لقد كان يبحث عن هذا الابن منذ مطالبين بمبالغهم المستحقة بتحريض من صديقين يعتمدان سنوات لكن دون جدوى. وإذا لم يُعثر على هذا الابــن بــعد على جيبه هما سالم ،وعمر ، اللذان يريدان مواصلة حياتهما 15 سنة من وفاة ناصر ، فإنَّ ميراثه سيؤول إلى فاطمة وأخيها الخاملة، يحاول أن يفسخ عقد قران فاطمة بمختار، ويصبح الأكبر يوسف. يوسف، ولد ناصر الوحيد الذي سيحصل وصياً على أخته بدلاً من منصور بهذه الطريقة يمكنه الاستيلاء على أمواله مباشرة بعد وفاة والده، هو خروف العائلة الأسود. على أموالها المودعة في دار الأيتام القصر. لكنه يحتاج إلى إنه لا يريد أن يُفلح في شيء، ولديه أصدقاء سوء، ويعود إلى تعاون منصور ومختار في هذا الأمر. يستدعيهما، ويخبرهما المنزل متأخراً، ويشرب البيرة والويسكي، ويطارد النساء، بأن فاطمة تريد فسخ العقد. ويعرض على كل منهما مكافأةً ويبذر الأموال. لا يثق به والده، وبدلاً من ابنه يوكل حركة مبلغا كبيراً من المال، على أن يتم دفعه عند إبرام الفسخ. أعماله التجارية اليومية منذ سنوات لأخيه الأصغر منصور. لا يصدقانه ويرفضان العرض بسخط. مختار، الذي يحب يرى يوسف أن من الخزي أن تُزوّج أخته، "نجمة المدينة" فاطمة كثيراً، لا يرغب في ذلك إلا إذا صرحت كتابيا برغبتها و"فتاة أحلام كل أولاد الأثرياء"، بشخص فقير معوز مثل في فسخ الزواج الذي لم يتم الدخول به بعد. ومع مختار (5)، يلوم عمه على عدم تدخله لإيقاف الزيجة، غير أنه أن فاطمة غير راغبة في الفسخ، فحبها مختاراً صار أقوى. يقبلها على مضض، لكنه، بعد وفاة والده، يطرد عمه منصوراً، يقرر يوسف لاحقاً تقديم تبرع كبير للمدرسة التي يدرس على الفور ، ثم تتدهور الأمور بعد ذلك. فيها مختار، والضغط على مجلس الإدارة لطرده، ظنا منه أنه ذلك، يبدو بعد عامين من وفاة ناصر ، يـبــدد يوسف ميراثه، البالغ بدون عمل سيكون على أتم استعداد لقبول عرضه"() " ينظر، سعيد الجريري, مسرحية عربية - إندونيسية مثيرة للجدل، مجلة حضرموت الثقافية، العدد 33، يوليو سبتمبر 2024م المكلا)..

في الواقع قرأني لترجمة سعيد الجريري لمسرحية فاطمة المثيرة ذكرتي بقراءة مشابهة لكتاب الدكتور مسعود عمشوش (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) الصادر عام 1886م والمترجم في عام 2006 إذ كتبت يومها ما يلي:  يتناول المستشرق الهولندي فان دن بيرخ موضوع الهجرات الحضرمية إلى الأرخبيل الهندي وخصائص حضارم المهجر. ومع إن المؤلف لم يحرص على الدقة والموضوعية في جوانب عديدة من الكتاب، إلا الكتاب يحتوي على الكثير من الصفحات التي تستحق الإطلاع...

ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول، الأول منها جاء بعنوان “نشأة المستوطنات العربية وواقعها اليوم”، والفصل الثاني بعنوان “طباع المهاجرين الحضارم في الأرخبيل الهندي”، بينما الفصل الثالث جاء بعنوان ” مصادر دخل العرب في الأرخبيل الهندي”، ويناقش الفصل الرابع “الدين والتعليم” أما الفصل الخامس فقد جاء بعنوان “المواقف والتطلعات السياسية للعرب الحضارم في الأرخبيل الهندي”، ويتناول الفصل السادس الفروق بين العرب في الأرخبيل الهندي والعرب في حضرموت، وجاء الفصل قبل الاخير بعنوان “تأثير الحضارم في السكان المحليين”، أما الفصل الثامن والأخير فعنوانه “اندماج المولدين الحضارم في الأرخبيل الهندي. ربما كان ذلك عام 2010م حينما كنت رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة عدن..

يستهل المؤلف مقدمة الكتاب بالقول: "ينحدر جميع العرب المستقرين اليوم في الأرخبيل الهندي تقريباً من أصل حضرمي. ومن النادر جداً أن تجد أن تقابل بينهم أفراد قدموا من مسقط في سواحل الخليج العربي أو من الحجاز أو من مصر أو من سواحل شرق أفريقيا أو من المناطق الأخرى في اليمن. ومن النادر كذلك أن نجد بين العدد المحدود من هؤلاء الأفراد من يختار الإقامة الدائمة في جزر الأرخبيل الهندي، ومن يفعل ذلك سنصهر بسرعة وسط الكم الهائل من العرب القادمين من حضرموت"وفي الفصل الثاني..

 يتناول المؤلف كيفية يتمكن المهاجر الجديد من ترتيب سكن وعمل له في البلاد الجديدة وكيف يبدأ تسيير شؤون حياته، "وعادة ينزل المهاجر الجديد عند وصوله إلى الأرخبيل الهندي ضيفاً على الشخص الذي استدعاه. وإذا لم يستدعه احد طلب من أحد أفراد عائلته أو قبيلته أن يستضيفه ومن النادر أن يصل أحد العرب لاسيما من فئة السادة إلى الأرخبيل الهندي من غير أن يعرفه أحد يمكن أن يقوم باستقباله. وفي سنغافورة حيث ينبغي أن يمر غالبية المهاجرين القادمين من حضرموت، احترف اثنان من العرب مهنة استقبال المهاجرين الجدد فيتوليان تسكينهم وعند الضرورة يقرضانهم المال اللازم لمواصلة السفر بشرط إن يدفع المهاجر في وقت لاحق أجرة السكن والقروض مع الفائدة" ويشرح المؤلف طريقة السفر من حضرموت إلى جزر الأرخبيل الهندي وكان السفر من حضرموت إلى الأرخبيل الهندي يستغرق في السابق شهور عدة. وكان على المسافر أن يركب البحر في المكلا أو في الشحر باتجاه مومباي ومنها يذهب إلى جزيرة سيلان ثم إلى آتشيه أو سنغافورة، وكل ذلك بواسطة المراكب الشراعية التي لا يزال بعض المسافرين يستخدمونها اليوم، أما الأشخاص الذين يتوفر لديهم المال فيفضلون ركوب السفن الأوروبية التي تنقلهم من عدن إلى سنغافورة مباشرة..

كما يصف المؤلف طريقة تعامل العرب الحضارم مع المال والأعمال الخيرية ومن النادر أن تقابل رجلاً عربياً، سواء كان غنياً أو فقيراً، يصرف إجمالي دخله. فالتوفير جزء من طبيعتهم، وهو الذي يؤمن للجميع تقريباً نوعاً من الرخاء. ومن خصالهم المشرفة التي ينبغي ذكرها هن: عدم نسيانهم لأفراد عائلاتهم في حضرموت حينما تبدأ الثروة تطل عليهم. وحين لا يحتاج أقاربهم للمساعدة، يقدم المهاجرون الهبات للمساجد والمدارس والمؤسسات الخيرية والدينية الأخرى. ويبعث بعضهم للمساعدة إلى أحد العلماء أو أحد أصدقائه المسنين. ولا يفعل العربي أبداً ما يفعله الأغنياء الأوروبيون الذي ينتابهم الخجل عند رؤية أقاربهم الفقراء ويحاولون أن يتخلصوا من بسرعة. أما بين العرب فضرورة استفادة كل العائلة من ثروة أحد أفرادها تعد عادة راسخة تتوارثها الأجيال, وكل من يحاول أن يتهرب من أداء هذا الواجب الأخلاقي يستحقره مواطنوه الآخرون. وتصبح هذه العادة واجباً أكثر إلزاماً حينما يتعلق الأمر بمساعدة الوالدين، فاحترام العرب لمن كان السبب في مجيئهم إلى هذه الدنيا أدهشني كثيراً في الأرخبيل الهندي حتى بين المولدين..

وقد سبق أن لاحظه قبلي كثير من الرحالة. ويتطرق المؤلف لبعض المعاملات المالية وكيفية تعامل العرب الحضارم معها كالجوالات المالية: "ومن الصعب أن نعرف على وجه الدقة إجمالي الحوالات السنوية التي يبعثها المهاجرون العرب إلى حضرموت. مع ذلك، اعتقد إنه بالإمكان تقديرها بحوالي 150000 فلوران" ومعظم هذه الجوالات لا تتم بواسطة المؤسسات المالية أو البنوك الأوروبية التي لن تستطيع توصيل الجوالة إلى أبعد من سنغافورة أو مومباي أو عدن، أي أنها لن تسلمها مباشرة إلى صاحبها في حضرموت. لذا يتم في الغالب إرسال الحوالات مع أحد الأصدقاء أو الأقارب أو أحد أفراد العائلة الذي يود القيام بزيارة للبلاد. ولم اسمع ابداً أن احدهم قد قصر يوماً في أداء الأمانة. وفي باتافيا هناك تاجر يبعث بحوالات الناس مباشرة إلى سيئون بعد أن وضع عند وكيله هناك مبلغ 50000 فلوران يضيف إليه مبالغ أخرى بشكل دوري عن طريق عن.. 

وفي سيئون تسلم الحوالة نقداُ إلى يد صاحبها
ولفت انتباه المؤلف التزام العرب الحضارم بأداء الواجبات الدينية المالية كالزكاة، ويصف اهتمامهم بها بالدقيق قائلاً: كما أن الدقة التي يؤدي بها العرب في الأرخبيل الهندي فريضة الزكاة تعد علامة أخرى على أن حبهم لعمل الخير راسخ فيهم منذ القدم. ولا شك في أن حيهم لعمل الخير مساو لاعتدالهم في المأكل والملبس. فحن لن نجد هنا حضرمياً يتعاط المشروبات الروحية أو الأفيون ولم يغفل المؤلف الصفات الحميدة والحسنة التي يتسم بها العرب الحضارم: ومن الخصال الحميدة التي يتميز بها الحضارم: "احترامهم للعلم والفكر، ومن العلوم التي يفضلونها الفقه والقانون وعلوم الدين. ففي الأرخبيل الهندي حتى رجال القبائل الذي لم ينالوا من الحضارة إلا شيئاً يسيراً لا يستطيعون أن يظلوا بعيداً عن تأثير الرأي العام السائد تجاه العلم ويلفت انتباه المؤلف وإعجابه بتعامل العرب الحضارم مع العلماء ووضعهم في مكانة لائقة بهم بغض النظر عن وضعه المادي، ويؤكد على إن هذه خصال ينبغي أن يقدرها كل إنسان محب للخير..

 وقد حضرت بعض اجتماعات العرب ولاحظت أن التجار الأغنياء والرؤساء المعينين من قبل الحكومة الهولندية يخاطبون عالماُ فقيراُ مغموراً بطريقة تبين أنهم يعتبرونهم أرفع منهم منزلة. ويتجاوز هذا التقدير مجرد علامات الاحترام المعنوية. وقد أخبرني أحد أصدقائي من التجار العرب عرفته بالصدفة إثناء إقامته في عدن أن لدى أحد العلماء العرب قضية شائكة مع أحد رجال الدين المحليين، فوضع تحت تصرفه 2500 فلوران ليستطيع أن يستعين بأفضل المحامين إذا ما تطلب الأمر ذلك. إلا أن تلك القضية لم تصل لحسن الحظ إلى المحكمة. وهي تبين مدى احترام الحضارم للعلم وحبهم للخير حتى تجاه الأشخاص الذي لا تربطهم بهم قرابة أو صداقة. وهذه خصال ينبغي أن يقدرها كل إنسان محب للخير.
أما فيما يتعلق بالجريمة، يقول المؤلف إن الإحصائيات تميل كثيراً إلى صالح العرب، إي أنها تعكس ابتعاد العرب عن الجريمة. وقد أكد لي أحد القضاة الهولنديين أنه خلال مدة 12 سنة لم يمثل أمامه إلا عربي واحد..

ويأخذ المؤلف على العرب الحضارم ابتعادهم من الأوربيين ومحاولتهم لتجنبهم وعدم تدريس أولادهم في المدارس الأجنبية، حيث يقول: "وعلى الرغم من تلك الخصال الحميدة التي تتسم بها طباع العرب، فالناس الآخرون ينظرون إليهم بصورة سيئة للغاية. كما أن العرب هم الفئة التي تحاول الابتعاد قدر الإمكان عن الأوروبيين، فبينما نجد الصينيين الأغنياء يسعون عادة للاقتراب من الجالية الأوروبية، فلا شيء من هذا القبيل يوجد عند العرب الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس الحكومية أو مدارس البعثات التبشيرية" لكن يشير إلى ابتعاد شبان العرب الحضارم عن الألعاب المحرمة كالقمار، حيث يقول: " كما أن الشبان العرب كونوا لأنفسهم جمعية خاصة بهم تضم نحو أربعين عضوا وهي عبارة عن نادي ترفيهي يشبه الأندية المنتشرة في المناطق التي تخضع لبريطانيا. وفي هذه الجمعية، إضافة إلى تنظيم بعض حلقات النقاش، يمارس الشباب ألعابا مثل البلياردو والشطرنج، لكنهم لا يقتربون ابداً من ألعاب القمار المحرمة" ويعود المؤلف، فيشير إلى خصلة سلبية في الشخصية العربية، ألا وهي ميولهم إلى الانتقام والثار قائلاً: ((ومن الخصال السلبية التي تبهت الشخصية العربية في الأرخبيل الهندي: طبعهم الانتقامي الذي يميل دائما إلى الثأر، وحبهم للمقاضاة وجدلهم الدائم مع رجال الدين المحليين حول قضية الشريعة وفي الفصل الثالث، يتطرق إلى طبيعة تجارة العرب في الأرخبيل الهندي: ((من النادر أن لا تقابل في الأرخبيل الهندي عربياً لا يهتم بهذا الشكل أو ذاك بالتجارة. فالعرب يكونون مع الصينيين ما يسمى في لغة التجارة بـالوكلاء، أي أنهم يشترون البضائع بالجملة من الشركات الأوروبية الكبيرة ويقومون بتصريفها أما عن طريق موزعين آخرين أو مباشرة إلى المستهلك..

كانت هذه بعض الاقتباسات الواردة في كتاب “حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي” لمؤلفه الهولندي فان دن بيرخ والصادر عام 1886م، محاولين من خلالها التعرف على بعض الجوانب في تاريخ العرب الحضارم في الأرخبيل الهندي، والسمات التي تميزوا بها، وأيضا بعض السلبيات التي أشار اليها الؤلف، بغض النظر عن مصداقيته ودقته. ولا يسعني في النهاية سوى أن أعبر عن عظيم الشكر والتقدير للمترجم الدكتور مسعود عمشوش..

وإثناء قرأني الحريصة للترجمة دكتور سعيد الحريري مسرحية فاطمة لفت نظري النشيد الوطني الحضرمي الذي يقول " حضرموت يا أرض الأمجاد. يا بلادي أنت رمز العظمة، كل من يأتي إليك غازيا يموت " وهنا يحضر الوطن الأمن فيما يشبه الحنين أنه المكان هنا ذو دلالات ومعان استطيقية وسياسية وسيكولوجية، إنه يرمز إلى الأرض، الأم، الوطن، الجغرافيا، البيت الحي، المدينة القرية البلد السكر، والشيء الثابت الساكن الفضاء، إلَّا أنَّ البحث عن شيء يتصف بالدوام، هومن أعمق الغرائز الإنسانية، إنه مشتق من حب الإنسان داره ورغبته في مأوی پسكن إليه من الخطر والجوع والتشرد والضعف والعجز والموت وصروف الدهر وتقلبات الزمن. والمكان هو البعد المميز للنظام السياسي. والزمان في البعد المميز للكائن الحي، وهاتان المعادلتان مرتبطتان، لأنَّ الأولى هي النتيجة الطبيعية للثانية
ويؤدي العقل السياسي لعبة التأمين، أي المكان ضد الزمان ، ومبدأ التسجيل بثبت الوجود في المکان، لأنَّ المكان هو الذي يمنح الوجود، والمكان يرمز إلى الهوية، هوية الذات الأصلية، وينبغي أن يكون في مقدور المرء على الدوام أن يجيب على أعظم سوال ديني: من أين أنت؟ فليس شخصًا مَن لا ينتسب إلى مكان، ومَن يذهب إلى أي مكان يصبح أيًّا كان"(17)، "والجغرافيا هي بنت التاريخ بمقدار ما هي أمُّه" ، ويرى إدوارد سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية) أن السرد الروائي والمسرحي والقصصي هو الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمرة التأكيد هويتها الخاصة ووجود تاريخها الخاص، ولا شك أن المعركة الرئيسة العملية الإمبريالية تدور طبعًا من أجل الأرض وملكيتها وحق السيادة عليها، ومَن يملك حق استيطانيا واستثمار خيراتها.. إن موضع الرهان والمجازفة إنما هو الأراضي "الأمكنة، والممتلكات، والجغرافيا، والقوة، فكل شيء يتعلق بالتاريخ البشري متجذر طبعًا في الأرض، وهذا يعني أن علينا أن نفكر بالسكن والمعاش,.

ختاما أنها حضرموت التي احتفظت وحدها بالأسم والتاريخ وتلك هي مزيتها الأثيرة التي، ففي حين اختفت معالم الكيانات الحضارية القديمة في جنوب الجزيرة العربية في ليل التاريخ الطويل، بقيت حضرموت وحدها متفردة بحمل الأسم والرمز والمعنى شاهد حال ومآل على صيرورتها التليدة. هنا فقط وفي حضرموت وحدها يتكلم التاريخ تاريخه وهنا وفقط يمكن رؤية التاريخ في سيرورتة الحية الناطقة، أنها التاريخ الناطق، الذي يعرف عماذا يتحدث! مبارك لحضرموت هذا المؤتمر العلمي الجدير بالقيمة والأهمية والاعتبار، الذي يدرس مرحلة بالغة الحساسية في تاريخ الحضارة الإنسانية.إذ أن القرن العشر الهجري الذي يعني مرحلة انزياح مجرى نهر التاريخ البشري باتجاه الغرب الناهض هو فترة فاصلة في تاريخ الحضارة الحديثة. وأن تجد حضرموت ما تقوله في هذه المرحلة التاريخية العصيبة في حياة الحضارة العربية الإسلامية الأفلة حينذاك فهذا يعني بالنسبة للدراسة فلسفة التاريخ والحضارة العامة حدثاً علمياً على درجة كبيرة من القيمة المعرفية والأكاديمية. ولعل هذا من بين الحوافز العديدة التي حفزتني للمجي الى الغنّا مدينة حضرموت الزاخرة بالكنوز التاريخية الجديرة بالبحث والدراسة والتنقيب،.

 وأناّ على ثقة بان لدى حضرموت ما يستحق أن يقال ويُدهش ويثري ويمتع كما عودتنا دائما، ففي كل مرة سنحت لي الفرصة بزيارة هذه البلاد العميقة الاغوار الشديد التكتم اطلع منها بمعرفة جديدة وفهم جديد للتاريخ والحاضر والمستقبل، فمن أي الأسوار يمكنا لنا الاطلال على هذه القلعة التاريخية الحصينة التي لا تبوح بأسرار لكل عابر سبيل؟ ومن أي الأبواب والنوافذ ينفتح المشهد على هذه الواحة العربية الوارفة التي شيدت ناطحات سحابها من ماءها وتراب أرضها؟ وباي اللغات يمكن مخاطبة حورية البحر العربي حتى ينكشف المعنى؟ ستقول لنا حكيمة التاريخ وحارسة الحضارة غدا بعض رموزها، لمن يفهم الرمز والمعنى وستحجب بعضها بين سطورها، لمن يجيد الصبر والحلم والأمل. هنا في موطن أبن خلدون الحضرمي يعاود التاريخ الحضور بعيون جديد ليحكي القصة التي كانت وصارت ولازالت تعاود المسير بخطى واثقة وأمل فسيح صوب الفجر الذي تستحقه، والتاريخ هو التاريخ لا شيء يأتي اليه من خارجه ولا شيء يخرج منه . ويستحيل تبديله أو تغييره أو طمسه أو نسيانه، والأثر دليل على المؤثر، وأن نصنع التاريخ هو أن نترك ندبة في هذه الأرض التي تستحق الحياة! وحضرموت هي ندبة الحضارة العربية الإسلامية الإنسانية التي احتفظت بالأثر والمؤثر على مدى سبعة آلاف عام ولازالت تضي الغياب بحضورها البهي...