الرائد لا يكذب أهله

تحت ضغط زعماء قريش، توجه "أبو طالب لابن أخيه "محمد بن عبدالله"، مستوضحا حقيقة ما يدعو إليه من دين جديد: " اصدقني يا ابن اخي ولا تكذبني، فما عرفناك إلا صادقا، والرائد لا يكذب أهله".

بعدها وقف "أبو سفيان بن حرب"، وكان حينها أشد أعداء الدين الجديد "الإسلام" أمام ملك الروم مجيبا عن سؤاله حول الرسول العربي، ليؤكد:- "ماعرفناه إلا صادقا أمينا".. وعندما عاتبه من حوله فيما اعتقدوه مدحا لعدوهم، قال: " لو قلت خلاف ذلك لشاع بين العرب أن أبا سفيان كذب، وهذا لا يصح مني وأنا زعيم في قومي..!!" فالرائد لا يكذب أهله.

في تسعينات القرن الماضي، أثناء التحقيقات مع الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" بعد انكشاف علاقته مع المتدربة في البيت الأبيض "مونيكا لوينسكي" ، لم تحتل علاقته الجنسية مع المتدربة صدارة الاتهامات الموجهة الي الرئيس، فهي بنظرهم، "نزوة" لا مجال لتجريم انسان بها، لارتباطها بدافع بشري طبيعي.. لكن أن يكذب الرئيس، هذا ما يستحق العقاب.. فالكذب حتى في بلاد "الكفر والفسوق" صفة منبوذة مجتمعيا بل أشد مقتاً حينما تصدر عن قائد وزعيم.. فالرائد لا يكذب أهله، وإن فعل..فلا يمكن أن نأتمنه على بلد هو الأقوى والأكثر تأثيرا في العالم..!!

في البلد ذاته، سبعينات القرن الماضي، كانت تهمة الكذب أيضا أبرز ما تم توجيهه للرئيس الأمريكي " نيكسون" لعلاقته بفضيحة "وترغيت" وهي ما أجبرته خانعا ذليلا على تقديم استقالته العلنية، في حادثة شهيرة ذاع صيتها، وأشرت بجلاء لمسببات قوة وتقدم تلك المجتمعات رغما عن شذوذها الأخلاقي، وما نعتقده من انحرافها الديني، فحتى هناك يظل الصدق قيمة أخلاقية عليا، مكتسباً قيمة متصاعدة ومتناسبة، قدر ارتباطها بمستويات الزعامة والقيادة.. فيما الكذب رذيلة.. والرائد لا يجب أن يكذب أهله.

الواقع الآن في مجتمعاتنا مغاير تماما، فالخداع والكذب، أضحى يمتلك رضا شعبيا، وأضفى عليه تواتر التداول المجتمعي، لا سمة "العادية" المطلقة فقط، إنما صار قيمة محمودة تنبئ عن "ذكاء وحذاقة" .. وأغلب زعمائنا وقادتنا، التمثيل والاختزال الأكثر براعة للواقع، بذات قدر دلالته على أسباب تخلفنا السياسي والاقتصادي.

القيم الأخلاقية والمحتوى الديني والموروث الثقافي، لا قيمة لها مالم تستحيل الى واقع محسوس، والكم الهائل من التعاليم والمواعظ التي تعلي قيمة الصدق وتنبذ الكذب والخداع وتداعياتهما السلبية، تظل أطراً نظرية، لا فاعلية لها، بل وتتحول ركاما إن لم تتجسد واقعا نلمسه ونستشعر نتائجه.