في الزمان والخوف والاساطير ..

في الزمان والخوف والاساطير ..

• الاستاذ الدكتور قاسم المحبشي..

في الحاجة إلى الإيمان وتبرير المطلق المتعالي...

فيما يشبه الحوار مع الدكتور أشرف حسن منصور 
-- في الزمان والخوف والاساطير..
  ( الجزء الثاني )
 
الموجودات في هذا العالم كثيرة ومتنوعة جدا من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة؛ جمادات، نباتات، حيوانات، وأشياء من مختلف الإشكال والأحجام والأجسام والأنواع والأصناف جميعها موجودة ومحسوسة وملموسة منذ الابد قبل وجود الأنسان تحيطه به من كل الجهات وقد عاش الإنسان ملايين السنيين مندمجا في الطبيعة في سياق حيوي سحري اسطوري لا يفرق بين الذات والأشياء والفكر والواقع ومنح للظواهر الطبيعية اسماءها الاسطورية..

 فلقد تصور الأولون المطر إله يصب الماء من إناء بالسماء والريح له إله ينفخها بمراوح والشمس إله لأنها تضيء الدنيا ويشعل النيران والأرض إلهة والموت إلة والجمال إلة والخير إله والشر إله ..الخ ويمكن تصنيف الأساطير في مجموعتين هما: أساطير الخلق والتكوين وأساطير  التبرير والتعليل . تحاول أساطير الخلق أن تفسر أصل الكون وخلق البشر وظهور الآلهة. أما الأساطير التعليلية فإنها تهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية.وقد كان لك شعب من الشعوب اساطيره المحلية التي تمنحه الإيمان والمعنى. إذ تتعلق معظم الأساطير القديمة بكائنات مقدسة هي الآلهة. وهذه الآلهة تتمتع عند المعتقدين بها بقوى خارقة للطبيعة تفوق إلى حد كبير قوة البشر. ولكن على الرغم من القوى الخارقة المنسوبة إليها، فإن كثيرًا من الآلهة من الجنسين وكذلك كثيرًا من الأبطال الذين برزوا في الأساطير القديمة (الميثولوجيا) لهم خواصّ إنسانية. فهم ينساقون وراء العواطف كالحُبّ والحسد ويمرون بالتجارب الإنسانية، كالولادة والموت..

وهناك عدد من الكائنات الأسطورية تشبه البشر إلى حد بعيد. وفي كثير من الحالات فإن الصفات الإنسانية للآلهة تبرز المُثل السائدة في مجتمع ما. فالآلهة الطيبة ذكورًا وإناثًا تتمتع بصفات يُعجب بها المجتمع، بينما تتمتع الآلهة الشريرة بالصفات التي يمقتها ذلك المجتمع. والانسان فضلا عن جميع ما يصدق عليه من التعريفات كائن تسويغي اعتباطي واعتباطي تسويغي. يعتبط الاراء والقواعد والانظمة والقوانين اعتباطا يوافق منافعه ويطابق أهواءه حسب ما يحميه ويؤمنه ويسوغه ويقويه ويجعل امر التصديق بصحتها والأيمان بها والدفاع عنها فرضا واجبا مقدسا. في العصور القديمة من صيرورة العملية التاريخية كانت خبرات الانسان العملية المباشرة مع البيئة التي كان يعيش وسطها، خبرات بسيطة وردود افعال حسية بدائية, فالخبرة اليومية بالولادة والحياة والموت، لا سيما سر الموت ورهبته، دفعته الى الاعتقاد في عالم سحري ملئ بالارواح وطقوس الموتى، كان الانسان مدمجاً بالطبيعة وكانت الاسطورة هي الافق الممكن للتفكير والمعرفة والحياة, "فالاسطورة كانت النظام الفكري المتكامل الذي استوعب قلق الانسان الوجودي، وتوقه الابدي للكشف عن الالغاز والغوامض والمشكلات التي يطرحها محيطه"..

ان جسد الانسان الحاس بالمحسوسات هو الوسط الحي الوحيد الذي يجعله على اتصال بالعالم، للحكم على الظواهر والاحداث وتفسيرها. ولم تكن الظواهر والاحداث التي كانت تسيطر على حياة الانسان البدائي الا احداث الطبيعة، المطر والجفاف والحر والبرد والفيضانات والبراكين والاوبئة والكوارث الاخرى.إذّاك لم يكن الناس اصحاب عقلية تاريخية لان الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، لا يحدثهم عن التاريخ ولكنه يحدثهم عن الطبيعة، وهذا ما تنبأ عنه اعيادهم الاحتفالية الموسمية.فاعيادهم كانت اياما لم يسجلها التاريخ، بل هي ايام السنة الزراعية التي تتعاقب في كل عام وهذا يصدق على ما قاله المؤرخ الانجليزي (ادوار كار) "يبدأ التاريخ حين يبدا الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعية- دورة الفصول، وآماد الحياة البشرية، وانما بوصفه سلسلة من الاحداث المحددة التي ينخرط الناس فيها ويؤثرون فيها بصورة واعية". او كما عبر ايكهارات "التاريخ هو انقطاع مع الطبيعة يحدث استيقاظ الوعي"..

 وهذا ما يراه "اريك فروم" في كتابه "الخوف من الحرية" بقوله: (بدا التاريخ الاجتماعي للانسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي الى وعيه بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به)وهذا لا يعني ان الشعوب القديمة هي شعوب بلا تاريخ كما يحلو لبعض الباحثين الذين يصنفون تاريخ البشرية الى شعوب تاريخية وشعوب بلا تاريخ، وهذا ما اشار اليه ليفي شتراوس، في كتابه (الفكر البري) إذ اوضح "ان الفكر البري لا يخلو من أشكال المعرفة التاريخية التي تجد فيه جذورها، كما ان فكرنا منطقي فالفكر المتوحش منطقي ايضا ويبدو ان مدار المعرفة البشرية برمتها مدار منغلق على ذاته"..

نحن نميز بين التاريخ من حيث هو مجمل رد فعل الانسان ومجمل تطوره وتكيفه التاريخ من حيث هو نشاط الانسان الساعي لحل مشكلاته وتحقيق اهدافه العملية، ووعي الانسان لهذا النشاط عامة، فالعقل ظهر قبل الوعي، فالانسان القديم كان يصنع التاريخ ولكنه لم يكن يستطيع الانفصال عن هذا الذي يصنعه، كان الانسان مستغرقاً استغراقاً كلياً في تاريخه الطبيعي والاجتماعي، وعلى حد تعبير "بتر مونز". "فان التاريخ كان مدمجاً بالاسطورة، لان رؤية ما حدت فعلاً لا يعرف الابأيراد وصف تعبيري لما حدث، فيصبح المؤرخ على نحو ما واضع اساطير طوعاً او كرها"..

لقد زخرت الذاكرة البشرية بعدد واسع من الاساطير، كاسطورة جلجامش، واسطورة الخلق والتكوين والطوفان ويعد هذا الضرب من التدوين التاريخي شبيه التاريخ الذي لا يسجل ما حدث فعلاً بل ما حسه الناس واحبه او اعتقدوا في اوقات مختلفة بانه قد حدث ويرى علي حسين الجابري "ان الاسلاف قبل خمسة الاف سنة قد تمكنوا من دخول مرحلة العصور التاريخية حينما اكتشفوا الكتابة والتدوين التاريخي، متجاوزين اثار الكوارث والمصاعب الطبيعة ومقدمتها الطوفان حتى بدا لنا كان المعنى الباكر للتاريخ هو الشاهد المدون"لكن تفسير وتعليل الاحداث ظل مشوبا بالخيال السحري والتامل الاسطوري ولقد ظل التاريخ والزمن في الفكر القديم يلفح بالاسطورة وكان الزمان لدى القدماء هو ما يحدث عندما تنضج الثمار او تكبر الماشية" ففي المجتمعات القبلية التي كانت معنية في المقام الاول بالصراع من اجل الظفر برزقها من الطبيعة كان الميزان والايقاع والمقياس لحياتها ميزاناً انسانياً، وتحدد معاني الزمان اساساً حسب حاجات الانسان الحيوية..

 ويرى شبنجلر ان كلمة "الزمان لا معنى لها عند الرجل الفطري، فهو يحيا دون ان يكون في حاجة الى ادراك الزمان، لان كل ادراك انما ينشأ عن الشعور بالحاجة الى المعارضة، بين شي بشي، ومثل هذا الشعور لا مجال لوجوده عند الفطري، لانه لا يزال يتصور الوجود على انه تاريخ ولم يتصوره بعد بعده طبيعة. ولكن ليس معنى هذا ان الفطري ليس له زمان، كلا، انه له زمان ولكن ليس لديه شعور بهذا الزمان.
وهكذا فان أكثر المجتمعات القديمة لم تكن لديها أية فكرة ولو غامضة عن الزمن تاريخاً، بل ولم يكن لديها أي مقتضى لاستخدام نوع الزمن المقسم على "ساعات بالصورة المطلقة الموحدة المطردة" الذي تاخذ به حضارتنا مأخذ التسليم البديهي..

وخلاصة القول ان الزمان كما تصورته معظم مجتمعات العالم يتصف بخاصيتين:
1- انه كان مقياسا لتعاقب المواسم الزراعية، وأماد الحياة (الميلاد والحياة والموت) استناداً الى المعيار الانساني، ومن ثم كان شعبياً شخصياً ذاتياً.
2- الزمان بوصفه تجربة متميزة في جوهره بالتواتر والتكرار فهو ينطوي على ادوار متعاقبة للاحداث الميلاد والموت والنمو والانحلال بحيث يعكس دورات الشمس والقمر والفصول والوقت المناسب لاداء الاشياء ياتي مرة تلو الاخرى في مدد منتظمة.
لقد تبلورت هذه الخبرات في الاساطير والديانات القديمة في تصور دوري للتاريخ الكوني بأنه محكوم بثلاث حلقات هي "الميلاد والحياة والموت" وهذا ما عبرت عنه ملحمة "اله الطاعون" ايرا بكونها أقدم نص "في فلسفة التاريخ" فالتاريخ عنده يتجسد في نهضه تتبعها مرحلة أنحطاط وسقوط حضاري واضطراب في المعايير والتحلل اجتماعي وغزو اجنبي تليها مرحلة نهوض جديدة وتسقط فيها عوامل التخلف، وتعود الحياة في دورة جديدة"..

ويشير البان ويدجيري الى ما تضمنته التأملات الصينية عن الزمان والتاريخ في مفهومي اليان واليانج، الحركة والسكون. ان البحث عن شي يتصف بالدوام، هو من اعمق الغرائز التي تؤدي بالانسان الى الدين والفلسفة، ولا شك انه مشتق من حب الانسان داره ورغبته في مأوى يسكن اليه من الخطر والجوع والتشرد، والضعف والعجز والموت. قال تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت % الذي اطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفاً) وأول المدنية كهف او مغارة او موطئ قدم يحتله الانسان ويجد فيه اسباب العافية والامن والامان فيدافع عنه وطناً في العراء قبل اللجوء الى الكهوف والمغارات، واول الحضارة هو الاحساس بالخوف من العجز والوحدة. كل هذه الاحساسات التي تنتاب الانسان في جميع الازمنة وفي كل مكان وفي جميع العصور هي فطرة وغزيرة وطبع دفعه للبحث عن حلول عملية لها..

ان البحث عن القوي الدائم الثابت الازلي، البحث عن المعنى حيث لا معنى، البحث عن النظام فيما وراء الفوضى، البحث عن الواحد فيما وراء الكثير، البحث عن الابدي خلف الزمني، البحث عن الخلود فيما وراء الموت والفناء، البحث عن الحاضر فيما وراء الزائل هي من أقوى الدوافع في ذات الانسان, بل ان الظروف الفسيولوجية والحاجة الى الحفاظ على الذات ليست هي الجانب الوحيد في طبيعة الانسان، بل هناك جانب اخر ضاغط بالمثل وهو جانب ليس قائماً في العمليات الجسمانية بل هو قائم في صميم الحالة الانسانية وممارسة الحياة الا وهو الحاجة الى التعلق بالعالم خارج النفس الفردية الحاجة الى تجنب الوحدة، "ان الشعور بالوحدة والعزلة تماما يفضي الى الموت، حتى روبنسون كروزو المنفرد كان يصحبه "فرايداي" بدونه كان من المحتمل ان يموت" ان احساس الانسان بتفاهته وضآلته مقارنة مع بالكون والاخرين يشعره بحاجة الى التوحد بالكون والمجتمع، وما لم يحدث التعلق، ما لم يكن لحياته معنى ما واتجاه ما، فانه يشعر بانه شبيه بهبوةالتراب وتقهره تفاهته الفردية وضعفه وعجزه ومحدوديته..

 لقد دفع الانسان خوفه الشديد من التغير والزمان الى البحث عن الله الواحد الاحد القوي الثابت قال تعالى: «فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما افل قال لا احب الافلين﴿76﴾ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من الضالين﴿77﴾ فلما رأى الشمس بازعة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما أفلت قال يا قوم اني برئ مما تشركون﴿78﴾ اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض، حنيفا وما أنا من المشركين» يقول كولن ويلسون: «والحق ان الدين نفسه استجابة للغز الزمان الاساسي . افتقار الانسان الى الامن حين يحيا في الحاضر. واعياً بابعاد الماضي والحاضر التي تسحقه في كون لا يمتلك سلطاناً مباشراً عليه والمحاط بخطر الموت والفناء الظاهري. "والحل الذي تقدمه معظم الاديان هو تأكيد على نمط للوجود يتحقق بالخلود والتعالي والابدية، بغير بداية ولا نهاية مبرءاً من الاخطاء ومنزهاً من التغير فالدين يعمد الى ادماج الحاضر الأرضي والطبيعي والإنساني في الماضي والمستقبل"..

 وقد كان الخوف أساس الطوطمة، فتطور حتى أصبح حبا فشعائر وعادة للاسلاف وقد كانت العبقرية اليونانية في تفسيرها للتاريخ والزمان تنطلق من التجربة الإنسانية في التغيرات الجسدية.. من الميلاد والطفولة إلى النضج والانهيار الحتمي للقدرات الجسمية والعضلية في الهرم.فالزمن عندهم هو التغيير، ما كنا عليه وما نحن عليه الان سوف ينتهي، سواء كان جيداً او سيئاً او وسطاً بينهما.و تعد ملحمة جلجامش الرافدية، أهم وأكمل عمل إبداعي أسطوري شعري، كتبت سطوره منذ العهد السومري في المرحلة الواقعة بين (2750و2350) قبل الميلاد عن الملك جلجامش الذي عاش في مدينة أوروك «الوركاء» الواقعة في وادي الرافدين على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وقد تشكلت حول شخصه باقة من الحكايات الأسطورية والبطولية، التي تسرد أخبار أعماله الخارقة، وسعيه المستميت إلى معرفة سر الحياة الخالدة...

إلى أين أنت ذاهب يا جلجامش؟ 
إن الحياة التي تبتغيها سوف لا تجدها
عندما خلقت الآلهة البشر، فرضت عليهم 
الموت واحتفظت لنفسها بالخلود 

وهكذا سواء آخذنا بالوحي الإلهي والتنزيل الحكيم أو التفسير الاختباري العلمي؛ يظل الإنسان هو المعني بالعقل والتعقل والتفكير والتأمل فهو من علمه الله الأسماء كلها وجعله خليفته في الأرض. والإنسان العاقل (باللاتينية: Homo Sapiens) هو الاسم العلمي للنوع الوحيد الغير منقرض من جنس الأناسي والمعروف بهومو (باللاتينية: Homo)، الذي يحتوي أيضاً على نياندرتال وأنواع أخرى من القردة العليا. صاغ كارولوس لينيوس الاسم الثنائي للإنسان العاقل (Homo Sapiens) في عام 1758، وهو اسم لاتيني؛ الجزء الأول منه homō بمعنى الإنسان، بينما تكون كلمة sapiēns صفة بمعنى المتميز، الحكيم، أو العاقل. الكائن الوحيد الذي يمتلك القدرة على تعقل العالم ومنحه المعنى. فمن الإنسان لا من غيره انطلقت مسيرة الفكر البشري منذ أقدم العصور وقد كان جسد الكائن وعقله وحواسه وحدسه هي ادواته المتاحة للتعرف على عالمه وفهمه وتدبير العيش فيه ومازال كذلك إلى يوم الدين. ومن ذات الإنسان العاقل الحالم انطلقت النظر إلى الكون والكينونة بوصفها روح وجسد، ذكر وأنثى، واقع وفكر، مادة ومعنى، علم وسحر، حضور وغياب، شاهد وغائب.الخ. وقد تم النظر إلى الكون بوصفه ذكرا وأنثى، أرضا وسماءا..

 وهكذا اعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج, أي الأنوثة والذكورة الـyang يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والحياة, والـ yin ويرمز إلى الأنوثة العنصر السلبي المنفعل, الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون, الذكورة الأنوثة أي اليانج والين. كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري, أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة ويمنح الرجل الذكر مكانه أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون, وان الرجل هو الكائن العاقل الوحيد, وان المرأة كائن حسي غير عاقل, برروا النظرة الدونية للمرأة. وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام بان الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال, شرعوا عادة وأد البنات... وحينما يعتقد بان جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات فلابد أن نختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال. هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة, بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها, من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية, كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة, بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأة وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس ((Habitus)) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية. ورغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان "الرجل" يعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جداً, إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الحديث يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك, أو " الهابيتوسات" حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو, يقول عالم النفس التربوي الأمريكي " أرثر كوفر" في كتابه " خرافات في التربية" "يسلك الناس وفقاً لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصاً أمين فسوف أثق به, وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقاً لما نعتقد .وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة, نستطيع أن نحدث قدراً كبيراً من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا, وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر" ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره. وربما كانت مغامرة العقل الإنساني الكبرى تكمن في محاولة نزع السحر عن العالم. وقد مرت تلك العملية في ثلاث مراحل أساسية؛ مرحلة الفلسفة اليونانية التي نزعت السحر عن الطبيعة وحاولت لأول مرة في تاريخ الفكر البشر تأمل الوجود وتعقله بعيون إنسانية وليس أسطورية حيوية سحرية كما كان الأمر في الأزمنة الشرقية القديمة حيث كانت تمتزج الطبيعة بالتاريخ والأسطورة بالعلم. وربما كانت المعجزة اليونانية كما يقول جون بيير فرنان في كتابه، الفلسفة في مواجهة الأسطورة. وكانت المرحلة الثانية هي تلك التي بدأت بعصر النهضة الأوروبية ومشروع الحداثة الغربية المتمثلة في نزع السحر عن التاريخ. إذ أنطلقت النهضة من تأكيد قيمة الإنسان وقدرته على صناعة التاريخ، فأنها في بدء الأمر قد اكتسبت بعدين أساسين:- البعد الأول يتمثل في نقد كل ما يحول دون انطلاقة الإنسان ويكبل قواه وهذا ما شهده القرن السابع عشر، الذي يعد قرن تحطيم الأوثان، إذ كان ملتون في ملحمة "الفردوس المفقود" يهاجم بلا هوادة المؤسسات التقليدية، ويرى "أن أعظم عبء في العالم هو الخرافة، ليست المتعلقة بالطقوس الكنسية وحدها، بل بالآثام المتخلية وبفزاعات الإثم في البيت أيضا" وفي كتابه "الاوياثان" 1651 سار هوبز بهذه النزعة النقدية ضد الخرافات والأوثان إلى نهايتها المنطقية فالوثنية كما يقول هوبز عبارة عن عبادة الوثنيين لأفكارهم ذاتها، ولم تكن تلك العبادة ممكنة لولا أن الوثنيين الغارقين في ضلال الجهل لم يدركوا أن أفكارهم ليست مكتفية بذاتها، بل سببتها الأشياء الخارجية وتوسطتها ملكة التمثيل"ويلخص ماكس فيبر مشروع النهضة وغايتها في نزع السحر عن التاريخ وتأكيد قدرة الإنسان على صناعته بعقله وحواسه ونشاطه. وربما كانت المرحلة الثالثة هي مرحلة نزع السحر عن الإنسان وتلك هي الثورة الأخيرة التي جاءت حصيلة لتضافر علم الفلك وعلم الاحياء وعلم النفس والفلسفة. إذ أن فكرة داروين عن صيرورة الحياة وارتقائها وصراع الانواع قد وجدت هوى في نفس نيتشه. عندما انطلق من اعتبار الكائن الانساني ارقى ما وصلت اليه الحياة في صيرورتها, ومن ثم فالحياة او الانسان "هو ارادة اقتدار" في تجاوز اللحظة الراهنة باتجاه الاعلى المستقبل. وهذا الأخير هو "عود ابدي للذات"لقد اراد نيتشه ان يجيب على السؤال: ما هو الانسان؟ ما هي كينونة الكائن؟.. وكان جوابه: انه "ارادة اقتدار" وعود ابدي لذات النفس".. وتتعلق فكرة ارادة الاقتدار في قدرة الموجود على تجاوز وجوده, في حين تتعلق فكره العود الابدي, بالكائن في كلية – وهي القبول الاعلى للحياة وللكائن, فالفكرة تلك لا يمكن ان تفكر الا اذا توصل الانسان الى تخطي آخر الرجال, اذا توصل الى الإنسان الاعلى. إذا كان ماركس قد سار بفكرة هيجل الجدلية الكلية الى نهاية الشوط, ملحًا على الانسان الاجتماعي الكلي – الإنسان؛كمجموع علاقات اجتماعية وتلك العلاقة والتفاعلات هي التي تصنع التاريخ , فان صرخة نيتشه قد أنطلقت مما انتهى اليه فيورباخ الذي كان أول من بسط الله كجوهر للإنسان أستخلص هذا الأخير من دراسته الأنثروبولوجية للدين التأكيد إن الله لم يكن في حقيقة الامر الا المضمون الجوهري للذات الإنسانية المستلبة- الله هنا بالمعنى المسيحي طبعا-...