يوسف الشحاري...وحضور الله في الإنسان ..
الكاتب / عدنان حجر ..
كثيرون هم من تحدثوا عن الاستاذ الفقيد يوسف الشحاري ( رحمه الله رحمة الأبرار واسكنه فسيح جناته )..تحدثوا عن شخصيته كإنسان نزيه وشريف ومتواضع ..وتحدثوا عنه كتربوي ورياضي وأديب وشاعر ومفكر ومثقف..وتحدثوا عن نضاله الوطني والثوري والسياسي والحزبي وكذا نضاله في مواقع العمل في المؤسسات الرسمية والجماهيرية ..وحصد من الألقاب مالم يحصدها يمني قبل رحيله وأثناء حضوره وبعد رحيله ولن يصل إلى تلك الألقاب أحد من بعده.. وهذه الألقاب جعلته يستحق كما رثيته في قصيدة رثائي في رحيله ( ليس كمثله أحد )..
لكن مالا يعرفه أحد عن يوسف هو مالا يكتب عنه حتى اليوم هو مالا يدركه أحد كرائد من رواد الفلسفة الانسانية والفكر الفلسفي الانساني..كون ماتضمنه فكره الفلسفي مثل مدرسة فلسفية خاصة رغم أن هذه الفلسفة قامت وارتكزت على مختلف الثقافات والمدارس الفلسفية دون أن يقع في تبعية أي مدرسة أو اي مفكر فلسفي ..
فالضمير شعور إنساني باطني في المرء يجعله يراقب سلوكه ويتحكم بتوجيهه متبعا الخير..وهو مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي تسيطر أو تتحكم في أعمال الشخص وأفكاره،.ويتشكل الضمير عند الإنسان من خلال القيم الموجودة على مدار التاريخ البشري ومن خلال البيئة التي يعيشها الإنسان..واذا كان فلاسفة اليونان الكبار ( سقراط وافلاطون وارسطو ) قد اختلفوا في تحديد ماهية الإنسان وفي كيفية تمثله لهذه الماهية وكذلك أيضا سقوط وافلاطون وأرسطو لم يكونوا واضحين في تناولهم الضمير كجوهر للإنسان ..فسقراط ارجع ماهية الإنسان إلى صفات جوهرية مرتبطة بالعقل والنطق وافلاطون ارجعها إلى مجموعة من المبادئ والقيم أطلق عليها المثل ..... أما ارسطو فقد ارجع هذه الماهية إلى الحواس كمادة محسوسة لكنها أيضا مرتبطة بالعقل ..
غير ان الفقيد الحاضر بيننا يوسف الشحاري الذي تحل علينا الذكرى ال 24 لرحيله 16 سبتمبر2024م
كان يرى ان الضمير يختلف عن العقل ويختلف عن الإدراك وان الادراك وظيفة من وظائف العقل أما الضمير فهو أعلى سلطة في الإنسان بل إنه فوق سلطة العقل ..وهو ما جعله واضحا وقرر أن جوهر الإنسان هو الضمير ولا يكون الإنسان انسانا الا بالضمير.. وذلك من خلال قوله :
انا لولاك لم أكن إنسانا
ياضميري ولن اعيش مصانا ..
لذلك كانت شخصية وسيرة وتاريخ يوسف هي من أجمع علىها كل اليمنيين كإنسان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وجوهر جاءت من كونه كان يحمل ضميرا هو ماهية الإنسان هو جوهر الإنسان وهذه الماهية جعلته يتمثل الإنسانية في اروع صورها قولا وفكرا وسلوكا ..
لقد مثل يوسف في جوهر فلسفته ( الضمير ) ضميرا لوطنه وشعبه وضميرا لفلاسفة الضمير الذين سبقوه والذين عاصروه والذين سياتون من بعده ..بل إنه أكد في فلسفته ماذهب إليه الكاتب والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو. أن الضمير هو حضور الله في الإنسان..وعندما سُئل هوجو ما هو الضمير الإنساني؟
أجاب : الضمير هو روح العالم، به يعرف البشر بعضهم البعض، العالم لا يعاني من غياب القوانين والعقوبات، العالم يعاني من غياب الضمير الإنساني، الضمير هو الرادع الحقيقي لا العقوبة..وإذا سألت يوسف عن الضمير وكيف يمكن أن نعرف الإنسان الحقيقي نجده يرتبط وجود الإنسان الحقيقي بجوهر سامي وهو الضمير قائلا :
يُعْرَفُ الْمَرْءُ بِالضَّمِيْرِ فَإِمَّا
كَانَ خَيِّراً فِي الْحُكْمِ أَوْ شَيْطَانَا
أوْ عَظِيْماً يَسْمُوْ عَلَى كُلِّ شَرٍّ
أَوْ حَقِيْراً يُلَوِّثُ الْأَكْوَانَا ..
وان فكرة الخير والعظمة والسمو تعود إلى جوهر الضمير وان الشيطنة والشر والحقارة تعود إلى سوء الاستخدام لادوات الضمير من قبل الإنسان العاقل .. فصاحب الضمير عند يوسف هو الخير في كل تصرفاته لسلطنه على نفسه ومادون ذلك فهو انسان عاقل سلطته على ضميره مايجعله ضميره يتحرك وفقا لأوامر العقل..فالضمير بسلطته على العقل ينتج عنه خيرا والعقل بسلطنه على الضمير يجعل ناتج تصرفاته شرا وحقارة ..
وما تقدم هو ما جعل يوسف يقرر أن هناك ضمير واحد في الإنسان وهو ضمير حي ولا يوجد ضمير ميت .. فالضمير عند يوسف موجود عند كل البشر حيا ونشطا وفاعلا وليس ميتا ولا حتى جبانا وان الفرد هنا ماصدق للإنسان فقط وبالتالي وكونه حي اي الضمير فهو موجود داخل كل انسان ماهيته ..
فالضمير كماهية يعد حيا اي نشطا يقول :
انت حي في كل فرد مقيم
لست ميتا وصامتا وجبانا
وان لم تكن ماهيته الضمير ..فهناك ضمير يقيم فيه لكنه لايمثل سلطته على الإنسان وأن سلطته تعود على العقل وان الضمير في هذه الحالة يكون مرادفا للعقل في إنتاج الخير والشر وهو مالم يعتد به يوسف ..
لقوله :
خيرا في الحكم أو شيطانا
كون الخيرية هي الضمير باعتباره جوهرا نقيا للإنسان يتحكم ويختار للإنسان كل ماهو خير فقط ..
وأما ( أو شيطانا ):فهنا الضمير ليس جوهرا وانما مصدرا للمعرفة تقع تحت سلطة العقل.. والعقل هو من يختار للإنسان وليس الإنسان الضمير هو من يختار للعقلى..فالشيطان لا ضمير له لعدم إنسانيته ومايصدر عنه شيطنة والشيطنة من أعمال العقل في التخطيط والتدمير والاغراء والألهاء..وقس على ذلك ما جاء في قوله :
أو عظيما يسمو على كل شر
أو حقيرا يلوث الأكوانا
واذا كان الحكيم الصيني كونفوشيوس يصف الضمير بانه هو نور الذكاء لتمييز الخير من الشر.وان عدم الرجوع عن الخطأ هو خطأ أكبر..فإن يوسف هو من قرر أن مسؤولية الإنسان ترتبط بدوره كعاقل أخلاقي أن لا ينشط دور الضمير وان عدم تمثل الضمير في سيطرة الإنسان على الشر فإن جريمته في حق نفسه قبل الآخرين ستظل تلاحقه طول عمره قائلا :
ذَلَّ مَنْ قَيَّدَ الضَّمِيْرَ وَقَضَّى
عُمْرَهُ يَرْشُفُ الْمَخَازِيْ دِنَانَا
ويؤكد يوسف الإنسان لايمثل إنسانيته بمظهره وملبسه أو فخامته أو بطولته أو فقره أو غنائه او مكانته الاجتماعية أو السياسية أو الخ .. بل بضميره ..ولايتمثلها أيضا إذا قزم ضميره اي حط من مكانته في محيط وجوده العام كإنسان ولا يتمثلها إذا خانا إذا خرج عن مبادئه وقيمه ومثله وهو بذلك يفقد إنسانيته كإنسان ماهيته ضميره ومن فقد ماهيته فقد إنسانيته ومن فقد انسانيته لاوجود له..
.لقوله :
ليس يسمو الإنسان بالملبس
الزاهي أو هزم الضمير وخانا
ويؤمن يوسف إيمانا كاملا أن خلافة الإنسان لله على الأرض تعني تقديس تلك الخلافة بمستوى تقديس الله ومحبته له وذلك لن يتأتى للإنسان الا اذا تمثل في سلوكه الخير وانةيعطي عطاءا لا محدود لا ينتفع منه هو بل غيره لانه لايجوز أن يكون خليفة الله بغرض استغلال تلك الخلافة لأن الله لا يستفيد مما يفعله الإنسان بل الإنسان هو من يستفيد والاستفادة ليست بالمعنى الدنيوي المحسوس بل المعنى المعنوي ..وفي هذا يقول يوسف :
قدسوا الله في الضمائر كيما
تنعموا فيه بالرضى والجنان
واخدموا الله خدمة ليس فيها
مارب غير مطلب الغفران
ولما ثبت أن التاريخ هو أخطر انتاج كيميائي أنتجه العقل البشري فإن يوسف اتجه نحو الانسان بالتأكيد على أهمية كرامته وتحريره من القهر والذل والعبودية والتبعية لغير الله ( الضمير ) والتي تمارس ضده من قبل العديد من السلطات سواء الداخلية العقل والحواس أو الخارجية الكيانات والتجمعات والمؤسسات المجتمعية ..مؤكدا ذلك بقوله :
ولنعش لحظة من العمر قوما
حرروا من خساسة الانحناء..
وقوله :
شَرَفُ الْمَرْءِ أَنْ يَعِيْشَ أَبِيًّا
رَافِعَ الرَّأْسِ طَيِّب الْوُجْدَانِ..
وقوله :
مَنْ يَرُمْ فِي الْحَيَاةِ عَيْشاً نَبِيْلاً
واحْتِرَاماً وَعِزَّةً فِي الزَّمَانِ
فَلْيَدُسْ بِالْإِبَاءِ لَحْنَ رِيَالٍ
سَافِلٍ لَمْ يَجْنِ غَيْرَ الْهَوَانِ..
ويركز يوسف في فلسفته على الإنسان وربطه بالواقع بل إن يوسف يقر بما هو مادي كرابط سايكلوجي وليس كرابط برجماتي .. وبدأ الإنسان عند يوسف موقف والموقف يجب أن ينطلق من عقيدة وانسان بلا عقيدة كما يقول يوسف في مهب الريح ..مؤكدا على ذلك بقوله :
إِنَّ مَنْ يُقْتَلُ فِيْهِ حِسُّهُ
مَارَسَ الْإِثْمَ وَعَافَ الْقِيَمَا..
والإشارة هنا إلى حسه اي الحواس بما فيها العقل وليس الضمير .. فإن قتل فيه حواسه كان ذلك على حساب ضميره .. مايجعل ناتج هذا الحس المقتول ممارسة الشرور والاثم والعدوان ورفضه للقيم السامية والنبيلة ..
ويرى يوسف أن الضمير قوة وسلطة حاكمة للإنسان وان العقل هو أداة من أدوات هذه السلطة ..وان هذه القوة هي التي توجهه وتقرر مصيره....والانسان كضمير كما قال يوسف يعتبر موقف والموقف يجب أن ينطلق من عقيدة ..والانسان بدون عقيدة هو عند يوسف هو انسان في مهب الريح .. ولا يعتبر يوسف العقل مرادفا للضمير كما ذهب الى ذلك سقراط وافلاطون وارسطو وبرنشفيك وماكس شلر وجان جاك روسو وديكارت وسارتر واسبينوزا واوغسطسن وابن رشد والغزالي وقبل اولئك الفلاسفة الشرقيون القدامى ..حتى قبل 8000 الف سنة استند الشرقيون القدامى في فلستهم على مبدأ واحد متحد فاخناتون ونبوخذ نصر وحمورابي وزرادشت وماني وبوذا وكونفوشيوس.. حتى إن كانت ألماهيات عندهم متعددة ومختلفة بين عقل وروح ومادة وصورة ومثال ووعي وإرادة وطبيعة اجتماعية وطبيعة سايكلوجية الا أنهم جميعا يعتبرون هذه الماهيات مرادفة للعقل ..الا يوسف يعتبر العقل لاحقا فالضمير والضمير محتويا العقل وجميع الحواس المسؤولة عن تحركات الإنسان حسيا وان هذه الحواس بما فيها العقل ادوات تحت سلطة وقيادة العقل.. فالضمير هو الموجه والمرشد هو جوهر وماهية الإنسان بكل تفاصيله البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية ..
فقد قرر صراحة قائلا :
انا لولاك لم أكن إنسانا
ياضميري ولن اعيش مصانا ..
ونود هنا التأكيد على أن يوسف قدم فلسفة متميزة ومتفردة وان كانت بعض عناصرها مستلهمة من ثقافات وفلسفات عبر التاريخ ..فإنه قد قرر الضمير ماهية وجوهر ...وان هذه الناحية سنجدها تتحرك في قضايا عديدة ..العدل والحق والحب والولاء والانتماء والسلام والحياة والموت ..وغيرها من القضايا .. لكن المقام هنا لايتسع لأن موضوعنا طويل ويحتاج لوقفات كثيرة قادمة ان شاءالله ..
رحل يوسف وقد قال :
( وَلَيْسَ وَحْدِي الَّذِيْ يَمُوْتْ
اَلْكُلُّ فِيْ تُرَابِ (ذُوْ يَزَنْ) يَمُوْتْ
فَبَعْضُنَا فِيْ خِسَّةِ السُّكُوْتْ
وَبَعْضُنَا فِيْ ذَيْلِ بَنْكَنُوْتْ
وَبَعْضُنَا فِيْ ذِلَّةِ الْقَوَافِلِ
الَّتِيْ تَشُقُّ مُهْجَةَ الْخُبُوْتْ
ونختتم هذه الوقفة الفلسفية مع فيلسوف الضمير الاستاذ يوسف الشحاري في ذكرى رحيله ال24 الموافقة 16 سبتمبر 2024م..وحتى سيرته الذاتية طويلة بطول الكتب والدراسات والأبحاث وكبيرة بحجم الوطن وواسعة ومتعددة لأنها في مختلف مجالات الحياة ولا ينساها أحد لأنها ذاكرة شعب ..لذلك سنحاول التركيز على أهم هذه المحطات من سيرته الذاتية. .. فهو الأستاذ القدير والراحل العظيم يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن حسن الشحاري ،ولدسنة 1932م في مدينة الحديدة تهامة اليمن ..وفي 1954م أنهى دراسته الأساسية والثانوية ..وفي ذات العام 1954م التحق بكلية الشرطة.وفي 1957م تخرج من كلية الشرطة وعين بعد التخرج مباشرة مديرًا للأمن في مدينة (اللحية) شمال غرب مدينة الحديدة .. وفي 1958م التحق بمدرسة الأسلحة بالكلية الحربية في صنعاء..وفي 1959م عين معلما في كلية الشرطة بصنعاء..وفي ذات العام 1959م ساهم مع عديد من زملائه الضباط الاحرار في تأسيس تأسيس كتائب الحرس الوطني بمحافظة الحديدة..وفي 1962م ساهم في تأسيس منظمة شباب الثورة في محافظة الحديدة.وفي 1964م مديرًا لأمن الحديدة..وفي1965م مدرساً وكبيراً للمعلمين في كلية الشرطة بصنعاء ثم نائبا لمدير كلية الشرطة.. كما عمل ضابطًا لأمن إذاعة صنعاء، ثم مديرًا للتحرير في صحيفة (الثورة) اليومية في مدينة صنعاء..وفي1970م عضوا منتخباً عن مدينة الحديدة في مجلس الشورى..وفي 1972م اختيرا وكيلا لرئاسة المجلس..وفي 1979م نائبًا لرئيس مجلس الشعب التأسيسي.وفي 1982م رئيسا للجنة العليا لانتخابات المجالس البلدية..وفي 1987م تم انتخابه عضوا ووكيلاً لمجلس الشورى..وفي يونيو1989م شارك ضمن وفد اليمن الشمالي في الدورة التاسعة عشرة للاتحاد البرلماني العربي والتي عقدت في ابوظبي والقى كلمة وفدي شطري اليمن قبل الوحدة في تلك الدورة..كما شارك على راس وفد في اللقاء البرلماني الدولي والعربي والحوار العربيالأفريقي والحوار العربي- الأوربيراس..وفي نوفمبر1989م كان يوسف أحد شهود توقيع اتفاق اعادة الوحدة اليمنية..وشاهد اعلان قيام الجمهورية اليمنية في مايو 19090م.. وفي1990م شارك في أعمال الدورة الثالثة للهيئة العليا لمجلس التعاون العربي ، بالمملكة الأردنية الهاشمية..كما شارك في ذات العام في بحث المستجدات الراهنة على الساحة العربية والقضايا التي تهم البلدين وأمتنا العربية والإسلامية ، في السعودية.ووفي 1990م عضوًا في هيئة رئاسة مجلس النواب وعضواً في لجنة إعداد أول دستور للجمهورية اليمنية عقب قيام الوحدة..وفي1992م عين مستشارًا لرئيس الجمهورية، وفي 1993م رئيسا منتخبا لاتحاد الادباءوفي 1995م عضوا في اللجنة العامة وفي 1997م عضوًا في المجلس الاستشاري للرئاسة..وفي 1997م أعيد انتخابه رئيسا لاتحاد الادباء.وفي 2000م في 16سبتمبر2000م توفي الاستاذ اللواء حكيم الأدباء يوسف محمد الشحاري رحمه الله رحمة الأبرار واسكنه فسيح جناته ..
--------------------------
( نقلا عن منصة انزياحات )..