في الحاجة إلى الإيمان وتبرير المطلق المتعالي..( الجزء الاول )
• الدكتور قاسم المحبشي..
في الحاجة إلى الإيمان وتبرير المطلق المتعالي
فيما يشبه الحوار مع الدكتور أشرف حسن منصور
البارحة في ندوة أكاديمية تفكير عن مشروع المستشار عبدالجواد ياسين التي قدمها الدكتور أشرف منصور كانت مداخلتي بشأن حقيقة التمييز الأفلاطوني بين عالمين ؛ المطلق الثابت والنسبي المتغير ووظيفة ذلك التمييز في العصور القديمة قبل تمكن العلم الحديث من نزع السحر عن العالم؟! هو ذا الذي يفترض دراسته وفهمه لماذا لجاءت نخب المجتمعات التقليدية إلى تبرير مشاريعها السياسية بالاستناد إلى مصادر متعالية غيبية ومقدسة؟ فاذا كانت حاجة الكائن البشري المجبول على الوعي والذاكرة والخيال تستدعي الإيمان بالمقدس كما اوضح عالم النفس الألماني أريك فروم في كتابه المهمة ( الإنسان بين الجوهر والمظهر) ..
إذ أكد أن حاجة الإنسان إلى الإيمان بكائنات ارفع منه شأنا ، قوية وثابته ودائمة وشغوفة هي متأصلة في الكائنات العاقلة. للغيب سلطة وسلطته تنبع من ملكة الخيال وحاجة الإنسان للتجاوز والتسامي إلى ما هو أبعد من الواقع وحدوده الضيقة إذ أن في الوجود جانباً باطناً، لا مرئياً، مجهولاً، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية- العقلانية، وأن الانسان دونه دون محاولة الوصول إليه، كائن ناقص الوجود والمعرفة، وأن الطرق إليه خاصة وشخصية وفريدة وحميمة..
ولهذا سنجد أن هناك قرابات وتآلفات بين جميع الاتجاهات التي تحاول أن تستشرف هذا الغيب. فالتجارب الكبرى في معرفة الجانب الخفي من الوجود تتلاقى بشكل أو بآخر فيما وراء اللغات وفيما وراء العصور، وفيما وراء الثقافات. وهذا هو مبعث ظهور الأساطير والايديولوجيات في كل العصور. أن الكائن الإنساني هو أضعف الكائنات الحية على المستوى البيولوجي ولكنه اذكاءها واقواها بسره الغيبي الخفي فالغيب هو سر تفوق الكائن بغض النظر عن المعنى الذي يكتسبه هذا البعد الخفي في الكائن ( العقل، الحرية، الخيال ، الإيمان ، الأمل، الحلم، الوهم، العدم، الموت، الخلود، المعنى..الخ) ..
فكل الخرافات والأساطير والأيديولوجية هي تعبيرا عن تلك الحاجة الإنسانية المتعطشة للاشباع إذ أن الانسان ظامئ أبداً الى يتجاوز ويتسامي ويجسد ويتجسد إلى أن ينفصل ويتصل. ظامئ الى الوحدة لا الى التجريد والى المشاركة لا الى الهيمنة وفي مثل هذه اللحظة أيضاً يزداد الانسان يقيناً بأن في أعماقه محيطاً تسوره وتلجمه سدود وحواجز من كل نوع، وأن حياته ستظل زبداً إن لم يهبط فيه محطماً سدوده وحواجزه، حيث يرى ما لم يره، (ما لا يرى) ويفكر بما لا يفكر فيه ويحس بما كان يعتقد أن أحداً لا يحظى به. وحيث يفتح له عبر هذا الهبوط والتسامي في هذا الميحط، عالم ليس محدوداً بالاشياء، وإنما حدوده الفكر والخيال وربما كانت هذه اللحظة لحظة الحب بامتياز:"
ففي الحب يتجاوز كل من المحب والمحبوب فرديته، يتجاوز كل من العاشق والمعشوق كينونته، يتجاوز كل من الرجل والمرأة أنيته في وحدة، يشعران فيها أنهما أكثر مما هما في الواقع والمطلق، الوجود وما وراءه ولا يعود كل منهما إلا تجلياً للآخر يتجلى له، ويتجلى فيه ويتجلى عليه، ويتجلى معه ويتجلى كمثله من هذا السر العميق أنبثقت الصوفية بوصفها تجربة وجودية تتصل بما هو خفي وغيبي وعميق بحسب اودنيس والاتجاه الى الصوفية أملاه عجز العقل والشريعة الدينية"عن الجواب عن كثير من الاسئلة العميقة عند الإنسان. فكيف يمكن أن يعيش الإنسان بدون وهم من الأوهام؟ تلك هل صرخة نيتشه مكتشف العدم في قلب الحضارة الصناعة الحديثة وبهذا المعنى نفهم صرخة نيتشه حينما اكتشف ضمور الأيمان بما وراء الخير والشر في قلبه وقلوب أهل زمانه فجاءت صرخته المشهورة إذ قال: " لقد فتشت قلبي وقلوب أهل زماني فوجدت أن الله قد مات) يقصد الايمان بالمسيح وأضاف متسائلا يا للهول هل يستطيع الإنسان أن يعيش دون أن يؤمن بشيء ؟ ..
تلك هي المسألة التي حيرت نيتشه ولازالت تحير الحضارة المعاصرة. نزع السحر عن العالم وترك الإنسان مغتربا في عالم خالي من الأمل والمعنى العزاء والسلوى" ومن الخطاء الفادح القول بان نيتشه هو الذي أعلن موت الله كما كرر الدكتور أشرف منصور البارحة هذه الفكرة غير الصحيحة البتة. تداعت هذه ألأفكار إلى ذهني البارحة وأنا اتابع محاضرة فيلسوف الإسكندرية الصديق العزيز الدكتور، أشرف منصور وعرضه الرائع لمشروع المستشار عبدالجواد ياسين في الندوة الثامنة المكرسة للاحتفاء بسبعينية المستشار في أكاديمية تفكيرعبد الجواد ياسين والفهم العقلاني للدين... د. قاسم عبد المحبشي... صالون تفكير
إذ أعادتني تلك الندوة الراقية إلى زمن مضى؛ زمني الاشتباك الوجودي مع الظاهرة الدينية إذ تعود علاقتي الأكاديمية بفلسفة الدين إلى مرحلة الدراسة العليا الماجستير والدكتوراه. في الماجستير درست الفلسفة الوجودية وتعرفت على اتجاهات الفكر الغربي المعاصر في مقاربة الدين والإنسان والعالم وفي الدكتوراه بجامعة بغداد كتبت أول دراسة بحثية في فلسفة الدين بإشراف الدكتور مجيد مخلف طراد الديلمي، استاذ فلسفة الدين..
كانت دراستي في نقد التصور الماركسي المدرسي للدين وما صاحبه من سوء فهم وبيل. وقد سنحت لي الفرصة بتدريس مادة فلسفة الدين لطلبة الدراسات العليا في الجامعة على مدى عامين فقط. قرأت الكثير من الكتب وفهمت ما تيسر منها وكدت انساها لولا تلك الدعوة الكريمة التي ذكرتني بها. فما هو الدين؟ وما هي فلسفته؟ وكيف يمكن لنا فهمه وما هي وظيفته الاجتماعية؟ ..
جاء في لسان العرب لابن منظور " الدين مفردة جمعها أديان يقال دان بكذا ديانة وتدين به فهو دين، ومتدين، وأدانه ديناً أي أذله أو أستعبده" ولا يوجد اتفاق بين الدارسين بشأن معنى محدد للدين, بل أنهم ينظرون إلى الظاهرة الدينية من منظورات مختلفة, ومداخل متعددة, فمنهم من يهتم بالصيغة المعنوية في الدين "إن الدين هو الإيمان بكائنات روحية" حسب تايلر. ومنهم من يلح على الوظيفية العلائقية فيه, كما ورد في معجم أكسفورد في تعريف الدين بأنه " اعتراف الإنسان بقوة عليا غير منظورة تتحكم في مصيره ولها عليه حق الطاعة والتبجيل والعبادة، والعنصر الجوهري في الدين التسلطي هو الاستسلام لقوة تعلو على الإنسان، والفضيلة الأساسية في هذا النمط من الدين هو الطاعة والخطيئة الكبرى هي العصيان..
وكما يتصور الإله على أنه شامل القدرة محيط علماً بكل شيء فكذلك يتصور الإنسان على أنه عاجزاً تافه الشأن" ويركز فريق ثالث على البعد الإيديولوجي أمثال, امانوائيل كانط في تعريف الاعتقاد " بأنه النظر إلى شيء ما على أنه حقيقة" وأريك فروم الذي قال: " إنني أفهم بالدين بأنه أي مذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة ما يمنحها إطاراً للتوجيه وموضوعاً للعبادة " وفريق رابع يعرف الدين من منظور سوسيولوجي اقتصادي, كما فعل كارل ماركس في( الايدولوجيا الألمانية) أو ماكس فيبر في كتابه (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية عام 1904) وأن كان بصيغة متناقضة مع صيغة ماركس الشهيرة " الدين هو زفرة المخلوق المعذب، وروح عالم بلا قلب كما أنه فكر عالم يفتقر الى الفكر، إنه أفيون الشعوب " ويذهب دور كهايم في كتابه ( الأشكال الأولية للحياة الدينية) 1912م إلى تعريف الدين ب " مجموعة من المعتقدات والشعائر أوالعادات التي يوجد بينها علاقات متبادلة، مرتبطة بأشياء مقدسة،" ..
ولأغراض هذا الندوة يمكننا تعريف الدين بأنه تلك المؤسسة الاجتماعية التاريخية التقليدية الراسخة في حياة المجتمعات البشرية التي وفرت للفاعلين الاجتماعيين أطارا عاما للانتماء والتماهي مع مجتمعاتهم في صيغة تضامنية ميكانيكية ومنحتهم الشعور بذاتيتهم الجمعية, بوصفهم (نحن) متميزة في مقابل الآخرين, فضلا عن منحهم عقيدة عامة في تصوير وتعريف وتبرير وتفسير أنفسهم والله والآخرين والمجتمع والتاريخ والحياة والموت والخلود. وعليه نخلص إلى إن الإنسان هو كائن ديني وأن الإيمان هو جزء جوهري فيه، فلا وجود لإنسان بغير حاجة دينية، بيد أن هذا القول لا يخبرنا بشيء عن سياق خاص تتجلى فيه هذه الحاجة الدينية، فقد يعبد الإنسان الحيوانات أو الأشجار أو الأصنام من الحجر والتمر المعدن أو أو إلهاً غير منظوراً أو أو اروح الموتى أو أشخاص لهم تاثير عليه أو قبيلة أو فكرة أو طائفة أو حزب ، أو المال أو النجاح وقد يؤدي به دينه الى تطوير روح الدمار أو الحب..الخ..
فالدين هو إشباع لذلك الجزء الإنساني المتعطش دائماً للإشباع الروحي.إذ إن في الوجود جانباً باطناً لا مرئياً خفياً، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية – العقلانية وأن الإنسان كائن ناقص الوجود والمعرفة، وإن الطرق إليه خاصة وشخصية وفريدة وحميمة وهذا ما يفسر تماثل وتناغم جميع الاتجاهات التي تحاول الوصول إليه واستشرافه, فالتجارب الكبرى في معرفة ذلك الجانب الخفي من الوجود تتلاقى بشكل أو بآخر فيما وراء اللغات وفيما وراء العصور وفيما وراء الثقافات. والتصوف هو خير شاهد على ما نقول. كتب الدكتور عبدالسلام الربيدي " التصوف نزوع إلى التحرر والانعتاق وميل مُلحّ إلى تجاوز حدود الضروري اليومي المادي. هو تجربة تختزن إحساس الإنسان بوجود المستور الذي يكاد يغطي الوجود كله رغم انكشافات الوجود الظاهرة. وعلى الرغم من انطواء الفكرة الدينية بعامتها على هذا الإحساس، فإنَّ شعور المتصوف به شديد إلى حد الهوس الدائم الذي قد يتجلى في صورة أحلام ورؤى، أو في صورة شعور بحدوث خوارق، أو في شكل وجْد يأخذ المتصوف عمن حوله، أو في صورة جنون وجذب وهيام وشوق عارم للموت، أو في صورة حب وحنين يكادان يكونان فناء مطلقا..
إن هذه الحساسية المفرطة بالمستور وبكثافة الحجاب هي واحدة من أهم ميزات تراث الصوفية في تاريخ الإسلام. وهي سمة تعكس العاطفة المميزة للشخصيات الصوفية التي حملت على كاهلها مهمة البحث المضني" ( عبدالسلام الربيدي، التصوف الشطح باتجاه الوصول، موقع طواسين). كما هو واضح من التعريف آنفًا بأننا ازاء ظاهرة شديدة التعقيد والتداخل فكيف يمكننا مقاربة الظاهرة الدينية فلسفيا. هذا ما سوف ننتظره من الندوة المزمعة يوم الجمعة في ساقية الصاوي الثقافية...
( يتبع الجزء الثاني لاحقا )