الفيلسوف اليمني المحبشي واكتب كي أعرفك وافهمك !!...
قبل نحو 2468 عاماً، ذات يوم وقبل مايزيد على 2000 عام كان الفيلسوف الإغريقي اليوناني الاثيني سقراط يجلس بين طلابه في قلب أثينا، محاطًا بحلقة من النقاش والحوار، يتبادلون الحديث، يسألونه ويجيبهم، يصوّب أفكارهم ويقوّمها. كان النقاش دائماً مفتوحاً، واسعاً، متشعباً بقدر ما تتشعب الحياة نفسها. وبينما تدور الأفكار كما لو أنها معركة فكرية تدور رحاها في ذلك الفضاء، دخل شاب متبختر في مشيته، وسيم المظهر، يفيض بالثقة. نظر إليه سقراط مطولًا، ثم قال له جملته التي خلدها التاريخ: " تكلّم حتى أراك .".
وبهذه العبارة، أرسى سقراط مبدأً فلسفيًا عميقًا، مفاده أن الإنسان لا يُعرَف من مظهره، بل من منطقه وفكره وكلماته..وسقراط، الذي يعد أحد أعمدة الفلسفة الغربية ومؤسس الفلسفة الأخلاقية، وهو من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، من التأمل في الطبيعة إلى فهم الإنسان وذاته..كان
يرى أن الكلمة هي مرآة الروح، وأن التعبير عن الفكر مسؤولية لا تقل شأناً عن الفعل..
كما كان سقراط يؤمن بأن ما ينطق به الإنسان يجب أن يكون محل محاسبة ووزن، لا يُلقى عبثاً في الطرقات كما تُلقى الحجارة.ولأنه التزم بهذا المنهج، ونشر أفكاره الأخلاقية بين الخاصة والعامة من الناس على وجه الخصوص فقد دفع حياته ثمناً لفلسفته...
وبعد قرون طويلة حوالي 2460عاما وفي الطرف الآخر من العالم، وتحديداً في اليمن، أطلق الفيلسوف والأكاديمي الدكتور قاسم المحبشي عبارته الشهيرة: " اكتب كي أعرفك وافهمك." وكان ذلك في مستهل رحلته الأكاديمية بجامعة عدن، حيث دأب في أول محاضرة له مع كل دفعة جديدة على مطالبة طلابه بكتابة تعريف بأنفسهم، يتناولون فيه أسماءهم، اهتماماتهم، قراءاتهم، مواهبهم، ورؤيتهم للحياة، متحررين من القوالب التقليدية التي تقف عند مكان الميلاد أو الانتماء العائلي..
لقد أراد المحبشي من خلال هذه العبارة أن يضع الكتابة في موضعها الحقيقي: وسيلة لاكتشاف الذات، وبوابة لفهم الآخر. وهي اي الكتابة في جوهرها، -- وفقا لفكر وفلسفة المحبشي -- فعل وجودي، يُعبر عن الفكر، ويصوغ الهوية، ويُظهر ما لا يُرى بالعين المجردة. إنها مرآة الروح والعقل، على حد سواء ومن خلالها فقط يمكن للآخر أن يعرف انت " من تكون ".؟؟..
إن الفرق بين قول سقراط " تكلّم حتى أراك " وقول المحبشي " اكتب كي أعرفك وافهمك " ليس اختلافًا في الجوهر، بل في الوسيلة. فالكلام هو التعبير العفوي المباشر، المصحوب بنبرة الصوت وحركات الجسد وتعبيرات الوجه، ما يجعل معناه يتجاوز حدود الكلمات. أما الكتابة، فهي التعبير المتأنّي، المحكوم بقواعد اللغة والمنطق، والتي تحتاج إلى وضوح ودقّة لإيصال المعنى دون مساعدة من الصوت أو الإيماءات... والقاسم المشترك بين القولين أن جوهرهما يحمل فعلا وجوديا يصب في الماهية الحقيقية للإنسان ...
والكتابة، كما كان يراها المحبشي، ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي مسؤولية أخلاقية وفكرية، ورسالة يجب أن تُحمل بأمانة. فهي مرآة للوعي، ومؤشر على مستوى الإدراك، ودليل على عمق التجربة الإنسانية...
ويؤكد المحبشي انه : " في زمن التواصل الرقمي وثورة المعرفة لم تعد الكلمات المنطوقة كافية. اليوم، تكتب لتُرى. الكتابة صارت أداة وجود، ومقياس وعي وفي زمن الجائحة والعزلة، حين انقطعت اللقاءات المباشرة، برزت الكتابة كوسيلة وحيدة للحضور، والحوار، والانكشاف.وذلك هو أول اعتراف بوجود الانسان المفكر والناطق والكاتب "...
وفيما كان سقراط يعتمد منهج الحوار، الذي يقوم على التساؤل والمناقشة وصولاً إلى الحقيقة، كان المحبشي يزاوج بين التحليل التاريخي والنقد الثقافي، متسلحًا برؤية ترى في الفلسفة أداة لفهم الواقع لا مجرد تأمل نظري...وقد دعا الفيلسوف المحبشي إلى قراءة التراث العربي بعين نقدية معاصرة، منفتحة على الأسئلة، متمردة على الجمود، واعية بأهمية الفكر النقدي في مواجهة الدوغمائية..كما أشار في أحد مقالاته إلى أن الفيلسوف أحمد نسيم برقاوي كان له الأثر البالغ في إخراجه من " سباته الدوغمائي "، في لحظة وعي حاسمة عام 2020م..
إن الكتابة، في نظر المحبشي، ليست ترفًا ولا هواية، بل واجب ومسؤولية. والمسؤولية، كما يُفهم في السياق الأخلاقي والاجتماعي، هي القدرة على اتخاذ القرار وتحمل نتائجه. وهي من القيم الأساسية التي تسهم في بناء الفرد والمجتمع معًا...
ولذلك، ليس كل من يكتب يُعد كاتبًا...لان الكاتب الحقيقي هو من يجعل من قلمه صوتًا للناس، ومن كتاباته مرآة لآلامهم وآمالهم، وهو من يتناول قضاياهم بوعي ومعرفة وشجاعة وحياد. لا يهم إن كان لديه ألف قارئ أو كان يكتب في العزلة، بل المهم هو ما يكتبه، وكيف يكتبه، ولماذا يكتبه...
فالكتابة هي ذاكرة الإنسان وميزان قيمته وعبر التاريخ البشري مثلت أداة محورية في صياغة وعي الإنسان الفرد والمجتمع، ووسيلة خالدة لنقل المعارف والتجارب والقيم.كما كانت هي الخطوة الأهم في انتقال البشرية من الشفاهة ( الكلام والنطق ) إلى التوثيق، ومن العشوائية إلى التنظيم، ومن التقاليد إلى الحضارة والعراقة .وهي الحافظة للذاكرة الجمعية، والمساهمة في بناء هوية الشعوب، ومقاومة الطمس والنسيان، إذ بها تُكتب الدساتير، وتُخلّد الملاحم وتُبنى الثقافات وتُنقل الفلسفات والعلوم...
إن ما يخطه القلم هو انعكاس حقيقي لصاحبه، لحضوره اليومي، لحياته، لنضاله، لقضاياه. فكما أن الحديث مرآة الوعي، فإن الكتابة هي جوهر الذات، تكشف المعدن وتخلّد الفكرة... وبالكتابة الحقيقية والصادقة يرتفع الإنسان الكاتب حين يقول الحقيقة ويدافع عن القيم ويتناول في كتاباته القضايا الإنسانية والمجتمعية وينقل المعارف النافعة للفرد والمجتمع..
ويكون الكاتب كاتبا بحق لينير ويصلح لا ليضلل ويفسد...
ولان الكتابة في جوهرها مسؤولية أخلاقية وحضارية وأمانة تاريخية بها يسمو الإنسان الكاتب أو يهوى أو يخلد أو ينسى ..فإن الكاتب الإنسان الصادق يسقط حين يبيع قلمه ويسخر كتاباته للنفاق والتطبيل ويتاجر بمواقفه ويمتهن الكذب، وطمس الحقائق لخدمة الباطل والشر بدلا عن الحق والخير. فتغدو حروفه سمًّا ينخر في وعي الجماهير،حينها ينكشف القناع عن حقيقته ككاتب انسان صادق وماهية إنسانية تحركها القيم الأخلاقية فتصبح صفحاته شاهدة على خيانته الأخلاقية والمعرفية والفكرية ...
تكلّم حتى أراك... واكتب كي أعرفك وافهمك. عبارتان تفصل بينهما آلاف السنين، وتجمع بينهما روح واحدة، وسؤال واحد من أنت؟..ومن تكون ؟؟.. فاكتب كي اعرفك. افهمك !! ...