جـبهة التعـليم (المجـد المنسـي)
فـي خضم وطنٍ مثقلٍ بالحرب والانقسام والخذلان، ثمة جبهة منسية، لا تحمل بندقية، ولا تُدرج في تقارير المعارك اليومية، لكنها وحدها تزرع بذور الحياة في تربة موحلة بالفوضى؛ إنها "جبهة التعليم".
الجبهة الوطنية الداخـلية، التي تتكئ عليها الأوطان في أحلك اللحظات، وتحتمي بها الشعوب حين تنطفئ أضواء الحكمة، وتتوحش الأصوات.
لقـد آن لهذا الوطن المنهك أن يعترف بأن المعلم، والأكاديمي، والإداري التربوي، هم ليسوا موظفين في جهاز بيروقراطي يُجَزّى بالأرقام، بل هم حماة الوعي، وسدنة العقل، ورُسل المدنية، وبناة الدولة التي لا تهتز رغم الصواريخ والانهيارات.
ورغـم ذلك، يُعامَلُ المعلم في اليمن معاملة المُدان، تُنتزع منه حقوقه في راتب عادل، ويُترك يواجه الجوع والذلّ بصمت الكرامة؛ يُمنح من هم في الجبهات العسكرية مرتباتٍ بالريال السعودي، بانتظام قد تحسدهم عليه دول لم تعرف الحرب، بينما يُدفع بمن في جبهة التعليم إلى طوابير الذل، وإلى أحاديث الشفقة، وإلى تسوّل الاستحقاقات.
هـل أضحت البنادق وحدها هي معيار الوطنية؟ وهل صار من يُسلّح العقول ويمدّ الجسور نحو الغد، أقل شأنًا ممن يحرّك فوهات المدافع؟
إنـنا لا نقلل من شأن جبهات الدفاع، بل نثمّن تضحياتها، لكننا نرفض هذا الميزان الأعرج الذي يُثيب فئة ويُقصي أخرى، ويُفرّق بين من يُقاتل في الخنادق، ومن يُقاتل "الجهل والخرافة والتطرف والتجهيل".
إن المـعلم و الأستاذ الأكاديمي -اليوم- لا يطلب صدقة، ولا يناشد عطفًا، بل يطالب بحق أصيل، يكفله الدستور، وترعاه القيم، ويصونه منطق الدولة.
فالمـعلم الذي يذهب إلى مدرسته حافيًا، ويكتب على السبورة بقطعة فحم، والأستاذ الجامعي الذي يشرح للتلاميذ دروسَ القانون والعدالة وهو نفسه محرومٌ من أبسطها، ليس عالةً، بل هو شهيدٌ مؤجل.
(الوطـن يا أخوة، لا يُبنى بمن يحمل البندقية فقط، بل بمن يحمل القلم، ويزرع في وجدان الأجيال فكرة الوطن).
وإذا ما أُهـملت "جبهة التعليم"، فإن الوطن كله يسير بثبات نحو الهاوية؛ لأن البطالة لا تُنتج إلا الجريمة، والتجهيل لا يصنع إلا الفوضى، واليأس لا ينجب إلا التطرف.
أي مفارقة هـذه، التي تجعل من يحمل البندقية يتقاضى أجره بالريال السعودي، ومن يحمل القلم يُرمى في جحيم الحاجة، وتُداس كرامته على أبواب مكاتب البريد، وطوابير البنوك؟
أي عـقلٍ هذا الذي يفرّق بين من يحرس التراب ومن يحرس الإنسان؟
وأي وطـنٍ نرجوه، حين نغلق بوابات الجامعات والمدارس، ونفتح منافذ التجهيل والانحراف والانكسار؟
المعلم والأكاديمي والمربي، ليسوا فائضًا عن الحاجة، بل هم عصب الدولة وركيزة المستقبل، وهم -شئنا أم أبينا- خـط الدفـاع الأول ضد الانهيار الشامل.
فمـن ينشئ العقول، ويهذّب النفوس، ويغرس في الأجيال معنى الوطن، أحقّ أن يُصان ويُكرّم ويُحاط بالرعاية لا بالإهمال والتنكيل.
لكـن المؤسف أن السلطة -أيًّا كانت هويتها- قد اختارت أن تدير ظهرها لهذه الجبهة، وكأن المعلم ليس إلا ترسًا معطّلاً في آلة الحكم، أو موظفًا يمكن الاستغناء عنه في زحمة الحروب.
فـلا راتب منتظم، ولا تأمين، ولا حتى خطابٌ رسمي يقدّر حجم التضحية؛ بل كل ما يُقابل به هذا السدّ الوطني العظيم هو الجحود.
(وهل يُبنى وطنٌ بغير تعليم؟ وهل تقام الدول على أسس من الجهل والبطالة والتيه؟).
إن الجامعة أو المدرسة ليست مبنى، بل عقل الأمة حين تفكر، وقلبها حين تحلم، وضميرها حين تحتكم إلى الصواب؛ وإن الأستاذ، حين يجلس على طاولته الخشبية المتآكلة، ليشرح درسًا في العدالة، وهو نفسه يبيت مظلومًا، إنما يُربي شعبًا على التناقض، ويعلّم طلابه كيف تموت القيم في وضح النهار.
ليست هـذه دعـوةً للبكاء على الأطلال، بل نداء وطني لإنقاذ ما تبقّى من البُنى الحاملة للدولة.
فـكل بندقية اليوم ستصمت، وكل جبهة عسكرية ستنتهي، لكن "جبهة التعليم"، إن خسرناها، لن تستعاد بسهولة، بل سنبكي أطلالها لعقود.
ومـا نخشاه يا أخوة بكل مراره؛ ليس أن يتوقف التعليم، بل أن يستمر دون روح، دون أمل، دون معلم يملك رغيفه، وكرامته، وثقته في وطنه.
فيا من بيدكم القرار اناشدكم: لا تهزموا المعلم في داخله، ولا تختبروا صبر من تحمّل ما لا يُطاق.
فالـدولة، التي لا تنصف معلميها، تكتب صكّ إفلاسها الأخلاقي، وتنتحر معرفيًّا بلا ضجيج.
أعيدوا جزاكم الله خير "لجبهة التعليم"، اعتبارها، فثمّة حدودٌ لا يجب للدولة أن تعبرها، وحدُّ الكرامة المهنية للمعلم، هو خطّ الدفاع الأخير عن روح هذا الوطن.
أ. مشارك د. هـاني بن محمد القاسمي
مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية
عـدن: 1. يوليو. 2025م.
.