الجنوب العربي أمام لحظة تاريخية ذهبية حاسمة: إعلان الانفصال وبناء دولة عادلة أو تضييع التضحيات

تمرّ المنطقة بمرحلة حسّاسة قد تكون من أقوى الفرص التاريخية لطرح مشروع استعادة دولة الجنوب العربي. فالمشهد الإقليمي يتغيّر بسرعة، وميزان القوى في الداخل اليمني يميل تدريجيًا لصالح الجنوب، بينما الحوثي يمرّ بأضعف مراحله السياسية والعسكرية، منهكًا داخليًا ومكبّلاً خارجيًا. هذا الضعف البنيوي يفتح نافذة سياسية كان يصعب الوصول إليها في السنوات الماضية.

ومن جهة أخرى، تتبدّل موازين السياسة الدولية بصورة غير مسبوقة، مع بروز توجهات أميركية جديدة ترتبط بترامب ونهجه المختلف الذي يقوم على القرارات السريعة إذا لمس وجود مصلحة مباشرة واستقرار ناتج عن هذا القرار. وهذا يضع ملف الجنوب في دائرة اهتمام قد تُتيح فرصة ذهبية لطرحه على طاولة المجتمع الدولي، خصوصًا في ظل بحث القوى الكبرى عن مناطق مستقرة تؤمّن خطوط الملاحة والطاقة.

ومع ذلك، فإن امتلاك الفرصة لا يعني أن النجاح مضمون. التجارب التاريخية تؤكد أن اللحظات المفصلية تحتاج إرادة صادقة وقيادة واعية لا تعمل من أجل مكاسب شخصية ولا تبحث عن موقع أو جاه، بل تضع مصلحة الجنوب فوق المصالح الخاصة والأهواء الضيقة. فالقضية لا تُبنى بالشعارات ولا تُحمى بالولاءات العابرة، بل تُصنع بوجود رجال دولة حقيقيين، ثابتين، يحملون رؤية واضحة ويضعون الوطن في مقدمة أولوياتهم.

إن الخلاصة الأهم في هذا الظرف السياسي هي أن الجنوب اليوم يقف أمام فرصة يمكن أن تغيّر مسار تاريخه بالكامل، لكن الاستفادة منها مشروطة بوجود قيادة وطنية صادقة لا تتراجع عند أول ضغط، ولا تتنازل عند أول إغراء، ولا تهتم بالكراسي أكثر من اهتمامها بمستقبل شعبها. نجاح أي مشروع وطني يعتمد على الرجال الذين يحملونه. فإذا كانوا مخلصين، ثابتين، يعملون بصمت ويقدّمون المصلحة العامة على الخاصة، فإن المشروع سينجح ويتقدّم مهما كانت الظروف. أما إذا تولّاه من يبحث عن مكسب أو موقع، فإنه سيتحوّل من فرصة ذهبية إلى فرصة ضائعة قد لا تتكرر قريبًا.

إن مستقبل الجنوب لن يُكتب بالكلام، بل بالاختيار الصحيح للرجال القادرين على حمل هذه القضية بأمانة ومسؤولية، رجال لا يجعلون الوطن آخر اهتماماتهم، بل يكون هو أول أولوياتهم، وأساس قراراتهم، وهدفهم الذي لا يساومون عليه. هؤلاء هم من يصنعون الدولة، وهم من يحوّلون اللحظة التاريخية من احتمال إلى حقيقة واقعة.

وفي خضم هذا المشهد، يعيش الجنوبيون اليوم فرحة كبيرة مع تقدّم القوات المسلحة الجنوبية في حضرموت والمهرة، واستعادة الأرض بإرادة صلبة وإيمان راسخ بحق الجنوب في تقرير مصيره. هذه الانتصارات ليست مجرد تحركات عسكرية، بل هي رسالة واضحة بأن الجنوب قادر على حماية حدوده، وإدارة أرضه، وصنع مستقبله بيده.

ولذلك فإن شكر رجال الميدان واجب لا يسقط. فهم الذين وقفوا في الخطوط الأولى، وقدّموا التضحيات، وحملوا عبء المواجهة يومًا بعد يوم دون تردد أو شك. إن صمودهم وشجاعتهم هما الأساس الذي يُبنى عليه أي مكسب سياسي أو تحول تاريخي.

لكن الخوف الحقيقي يكمن في أن تذهب هذه التضحيات هدراً إذا لم تُترجم إلى قرار سياسي واضح. الانتصار العسكري بلا إعلان سياسي يرسّخ حق الجنوب قد يتحول إلى مجرد حدث عابر، بينما تضحيات الرجال تتطلب وضوحًا في الهدف، وشجاعة في القرار، وحسمًا يمنع تبدد ما تحقق على الأرض.

إن اللحظة لا تحتمل التردد. الجنوب اليوم في موقع قوة، وله رجال في الميدان أثبتوا قدرتهم، وشعب مستعد للوقوف خلف مشروعه، وفرصة دولية نادرة قد لا تعود. كل ذلك يجعل إعلان الانفصال خطوة منطقية لحماية التضحيات وتحويل الانتصار من حدث إلى واقع دائم.

بفرض الجنوب واقعًا مستقرًا على كامل أراضيه عبر بسط السيطرة وتطبيع الأوضاع وتوفير الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وطرقات وصرف الرواتب، سيجد المجتمع الدولي نفسه أمام حقيقة واضحة: لا بدّ من احترام القوة الفعلية على الأرض، والاعتراف بمن يديرها بكفاءة ويحمي سكانها ويؤمّن احتياجاتهم.

ويغدو تفعيل لجنة تنظيم الإدارات لصالح الدولة خطوة لا غنى عنها لضبط الأداء الحكومي ومنع المحسوبية والازدواج الوظيفي ونهب الأراضي، ومكافحة الفساد، وتعزيز استقلال القضاء، ووضع الأشخاص المناسبين في المواقع المناسبة وفق معيار الكفاءة. فبناء الدولة العادلة يبدأ من مؤسسات منضبطة تحمي المواطن وتحترم حقوقه وتصون كرامته.

وفي المقابل، يمثّل الفساد والاعتداء على الحقوق ونهب الأراضي وغياب المساواة محاولات لاختراق الصف الجنوبي وإضعاف الثقة بين الناس ومؤسساتهم، وهو ما يمكن للخصوم استغلاله لإحداث اضطراب داخلي. إن نجاح المشروع الجنوبي مرهون بحماية الداخل من العبث وترسيخ قيم العدالة والشفافية، فالشعب لا يمنح ثقته إلا لدولة تحترم كرامته وتساوي بين مواطنيه في الحقوق والواجبات، وتصون الجنوب من المؤامرات الخارجية بقرارات تاريخية تعيد إليه دولته ومجده المسلوب.