وداعا لذكرى فطوم حيص بيص
في الطريق البحري المؤدي إلى الشيخ عثمان، كنتُ أمشي مطمئناً كأي مواطن يحلم أن يرى عمود إضاءة واحد واقف بشرفه بدون تشويه، لكن قدر عدن دائماً يخبئ لنا مفاجآت. فبينما أنت تتأمل البحر وتفكر في المستقبل، يطلّ عليك أحد المستهترين الذي قرر أن يهدي البشرية إنجازاً فنياً جديداً: كتابة اسم حبيبته على كل عمود، وكأنها بداية ومدخل ليعرف أهل "فطوم" إنه يحبها بجنون.
لم يترك عموداً إلا وكتب عليه إسمها، حتى الأعمدة التي كانت متهالكة من سوء الخدمات، وقف لها وأضاف إليه عاهة ببصمته.
نحن أمام جريمة حبّ مشوّهة، أو فضيحة غرامية مكتملة الأركان ارتكبها مجهول يظن أن الشوارع دفتر يومياته.
الغريب أن صاحبنا لم يجرؤ أن يكتب اسمه، في الوقت الذي ضحى فيه باسم حبيبة قلبه! ربما خاف من أهل البنت، وربما هو مطارد من الزمن، أو محروم من التعبير في المنزل فقال: “أخرج أكتبها على أعمدة الإضاءة يمكن يعذروني”.
لكن النتيجة واحدة: عدن صحيت الصبح وفطومة خطبها نصيب.
ثم جاء اليوم العظيم، يوم الغسل الوطني للأعمدة.
صندوق النظافة وتحسين العاصمة عدن قرر يقتحم المشهد وينهي المسلسل الممل، بحملة نظافة جابت الطريق من أوله لآخره، ومسحت آثار الحنين العاطفي وأعادت للأعمدة كرامتها. وكأنها عملية فصل قضائي بين “فطوم” والعاشق الولهان.
ورغم أن عدن تحتاج خدمات أكبر من شطب اسم بنت، إلا أننا كنّا فعلاً بحاجة لهذه الخطوة، ليس لأننا نكره “فطوم، ولكن لأن الخط البحري لم يعد يتحمل مزيداً من البؤس البصري.
يكفي أن الشوارع أصبحت دفتر ذكريات للمراهقين، والجدران مفكرة يومية للعاطلين، والأعمدة دروعاً يكتبون عليها أسماء بنات خلق الله
يا جماعة، والله عيب، المدينة مش ملكك وحدك.
والشارع مش جدارية تكتب فيه اسم أمك، والعمود كائن مسكين، بالكاد واقف "لا يهش ولا ينش" لذلك السبب ارحموا ما تبقى من صلابته النفسية.
لو كان صاحبنا صادق النية، كان راح لبيت “فطوم” وطلبها بالحلال بدل ما يكتب اسمها على خمسين عمود، مع أن الخطوبة ما بتكلفه أكثر من قيمة الرنجه والبرش.
ولو كان يعاني في التعبير، فالأوراق والجرائد موجودة، وكذا الفيس بوك.
دعوا الشوارع نظيفة…
ودعوا “فطوم” في حال سبيلها.
ودعوا عدن تتنفس بلا أسماء محفورة على جدرانها.
فالمدينة ليست لوحة مراهقة، هي بيتنا الكبير الذي نعيش فيه، وليس سجلَّ حضور لقصص الحب من طرف واحد.



