مواطنون ومهاجرون ما قبل الشاشة وبعدها ..
•• بروفيسور / قاسم المحبشي ...
فيما يشبه التمهيد للملتقى الدولي الفلسفة وسؤال الإنسان في عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي المزمع افتتاحه غدا الثلاثاء الموافق ١١/ ١١/ ٢٠٢٥م في جامعة حسيبة الجزائرية العريقة وورقتي مكرسة للبحث في أزمة ( الإنسان والذاكرة والتاريخ في عصر الذكاء الاصطناعي)
من حسن حظنا أو سوءه إن يكون جيلنا شاهد حال ومآل لميلاد حضارة الموجة الثالثة؛ حضارة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. نحن المهاجرون بحسب وصف عالمة الذكاء الاصطناعي البريطانية سوزان غرينفيلد في كتابها المهم «تغيير العقل» إذ وصفت- كل المواليد ما قبل الإنترنت والتحول الرقمي بغض النظر عن طبيعة حضارتهم زراعية أم صناعية أو حتى قبلهما كما هو حال بعض المجتمعات البدائية التي ظلت معزولة عن التاريخ العالمي- وصفتهم بجيل المهاجرين. نعم نحن الذين ولدنا ونشأنا في النصف الثاني من القرن الماضي نختلف عن الجيل الرقمي المولود في العالم الافتراضي أي لم يعرف الحياة قبل الإنترنت أو قبل الشاشات الذكية. جيل يعيش تفاعله الإنساني اليومي عبر وسائط رقمية وشبكات اجتماعية وألعاب تفاعلية ويميل إلى الاستجابة اللحظية والمباشرة للمحفزات بدل التفكير العميق أو التحليل الممتد. اسمته جيل ( Z) يعيش تجربة “الذات” كهوية آنية تتشكل داخل الشاشة — أي أنه يعيد بناء ذاته باستمرار عبر التفاعل مع الذكاء الاصطناعي والوسائط الرقمية المتعددة. يتطور دماغه في بيئة تقوم على الصور السريعة والمكافأة الفورية ومن ثم فهو يميل إلى ضعف الذاكرة الطويلة المدى والتفكير التجريدي بل تجده بحس وصفها " أكثر سطحية وسرعة، يعتمد على الصور والكلمات القصيرة والإشعارات والتفاعلات الافتراضية المجردة سياقات الاجتماعية والثقافية والنفسية التفاعلية الحية التي كانت تتسم بها حياة البشر ما قبل الذكاء الجديد. في زمننا كان التواصل بين الناس يتم عبر حضور جسدي وحسي كامل، نبرة الصوت، تعابير الوجه، حركات الجسد، الإيماءات، نَفَس الآخر، ونظراته، زمن التعليم المدرسي والقلم والدفتر والقراءة والكتابة والتفكير والنقاش في سياقات بشرية مباشرة فالهوية الإنسانية التي نعرفها نُسجت عبر قرون من التجارب التفاعلية بين الفاعلين الاجتماعيين وجهاً لوجه، حيث كان حضور الآخر يعيد تشكيل عقولنا لحظة بلحظة"
فجيلنا ما يزال يحتفظ بقدرة على التركيز الطويل، القراءة العميقة، والتفاعل الوجهي المعنوي والحنين إلى القراءة الورقية والكتابة الحبرية ويتعامل مع الذكاء الاصطناعي كـ أداة، لا كـ بيئة وجودية ويرى الزمن كمجرى متصل من التجارب والخبرات والذكريات والمعاني في نسق تفاعلي بين الماضي والحاضر والمستقبل. بينما جيل الذكاء الاصطناعي لا يعرف هذه التجارب والخبرات التي عشناها لهذا فهو يعيش تجربة “الذات” كهوية آنية تتشكل داخل الشاشة — أي أنه يعيد بناء ذاته باستمرار عبر التفاعل مع الذكاء الاصطناعي والوسائط المتعددة. وقد لاحظت بنفسي مدى الاختلاف التفكير والتفاعل بين الجيلين ففي العالم الافتراضي يصبح الارتباط الإنساني أكثر هشاشة وأقرب إلى “الوجود الافتراضي” منه إلى الوجود الواقعي ويتحول التواصل من علاقة بين ذوات وشخصيات حية وفاعلة إلى تبادل معلومات ورموز رقمية لا وزن لها ولا عمق ولا ارتفاع. تخلص المؤلفة إلى التأكيد أن هذا التبدّل التقني يؤدي إلى إعادة تشكيل الشبكات العصبية المسؤولة عن التعاطف والانتباه والتفكير العلائقي، مما يعني تغيّرًا فعليًا في بنية العقل ذاته فالعقل الذي يتشكل في بيئة رقمية مستمرة ليس هو العقل ذاته الذي نشأ في سياقي اجتماعي ثقافي تفاعلي وجها لوجه؛ إنه عقل في حالة تدفق دائم، لا ذاكرة له إلا اللحظة التالية.
وهكذا بتنا نعيش انقسامًا حضاريًا داخل العقل الإنساني ذاته بين جيلين: جيل المهاجرين الذي ما زال يعيش في زمن الذاكرة والهوية الثقافية والسياق واللغة والتجربة الداخلية وجيل الذكاء الاصطناعي الذي يعيش في عالم افتراضي رقمي عبر تدفق الصورة، اللحظة، والبيانات المتغيرة. وبذلك لم يعد الاختلاف بين الأجيال مسألة ثقافة فقط بل تَشكُّل عصبي جديد يجعل كل جيل “يرى العالم” بطريقة مختلفة. مازلنا في بداية الصدمة والذهول من عالم جديد أخذ يتشكل ويعيد تشكيل التاريخ البشر على غير مثال سابق أبدا....



