تهامة المنهوبة قرنٌ من الصمت على شاطئٍ منسي....
✍????: عبدالجبار سلمان
على امتداد الساحل التهامي غربي اليمن، حيث تلتقي رمال الصحراء بزُرقة البحر الأحمر، ترقد تهامة كصفحة منسية من تاريخ البلاد، غنية بالخير والفقر في آنٍ واحد. منطقة تمتلك كل مقوّمات الثراء ثورة بشرية، أرض خصبة، موقع وموانئ استراتيجية، وموارد زراعية وسمكية هائلة لكنها ظلت على مدى قرن كامل تعيش تحت خط الإهمال، وكأنها ليست جزءاً من وطنٍ واحد. من عهد الإمامة الكهنوتية إلى العهد الجمهوري، وصولاً إلى سلطة الاماميين الجدد ميليشيا الحوثي، لم يتغير المشهد كثيراً؛ فالسلطات تتبدل، لكن واقع الحرمان واحد، والضحايا أنفسهم أبناء تهامة. في بدايات القرن العشرين، عندما كانت الإمامة الزيدية تحكم شمال اليمن، كانت تهامة مجرد هامشٍ على خريطة السلطة. لم يُنظر إليها كمنطقة تحتاج إلى مدارس ومستشفيات أو مشاريع بنية تحتية، بل كخزان زراعي ومصدرٍ للضرائب. كان أئمة صنعاء يعتبرون الساحل التهامي مجالاً ثانوياً، تُستخرج منه الغلة ويُترك له الفقر والحرّ والملاريا. ورغم موقعها الجغرافي الحيوي على البحر الأحمر، لم تجد تهامة في تلك الحقبة إلا التجاهل، واستمرّ هذا النهج حتى بعد سقوط الإمامة وقيام الجمهورية عام 1962، حين ظنّ التهاميون أن زمن التمييز قد ولّى وأن عهد المساواة قد بدأ، لكنهم اكتشفوا سريعاً أن الشعارات تغيّرت، لا السياسات. في ظل النظام الجمهوري، كانت الوعود كثيرة مشاريع بنية تحتية، مشاريع زراعية عملاقة، تطوير للموانئ، واستثمار في السياحة الساحلية، لكن الواقع جاء مغايراً. صُنّفت تهامة في عقل الدولة المركزية كمنطقة “هامشية” لا تمتلك ثقلًا قبلياً أو سياسياً، فبقيت خارج معادلة النفوذ والقرار. الأراضي الزراعية خضعت لهيمنة المتنفذين، الموانئ تحوّلت إلى مصدر إيرادات تُنهب لصالح العاصمة، والمزارعون المحليون أُقصوا من الاستفادة من خيرات أرضهم. ومع كل عهدٍ جديد، كانت تُطلق الوعود، ثم تُدفن في رمال الساحل كما تُدفن الأقدام في طمي البحر الأحمر. وحين دخلت البلاد مرحلة الحروب والصراعات الحديثة، تحوّلت تهامة إلى ساحة صراعٍ لا صوت لها فيه. سيطرة الحوثيين على الحديدة منذ عام 2014 مثّلت فصلاً جديداً من التهميش، لكنه هذه المرة مُغطّى بشعارات “الثورة والعدالة”. الميليشيا التي ترفع راية محاربة الفساد مارست ذات السلوك القديم استحواذ على أراضٍ، تحويل عائدات الميناء إلى خزائن الحرب، وفرض إتاوات على الصيادين والمزارعين الذين يعتمدون على البحر والأرض للبقاء على قيد الحياة. أصبح ميناء الحديدة، الذي يُفترض أنه شريان اليمن التجاري، أداة تمويلٍ لحربٍ لا تنتهي، بينما يعيش سكان المدينة على المساعدات الإنسانية التي تصلهم عبر البحر نفسه الذي يملأ خزائن الآخرين. في القرى الممتدة بين الزيدية والدريهمي وباجل لا بنية تحتية ولا مستشفيات، لا مدارس، لا طرق معبّدة، ولا مياه صالحة للشرب. في بعض المناطق، لا يجد الأهالي سوى العشش المصنوعة من سعف النخيل لتقيهم حرّ الصيف وأمطار الشتاء. واقع يختصر قرنًا من التناقضات بين غنى الأرض وفقر الإنسان. لم تقتصر المعاناة على الجانب المادي، بل تعدّته إلى التمييز الاجتماعي الذي طبع النظرة إلى أبناء تهامة لسنوات طويلة. فقد وُصفوا في الخطاب الشعبي والسياسي بأوصافٍ تمييزية تُشعرهم بالدونية، وأُقصوا عمداً عن المناصب الحساسة في الدولة. وبذلك أصبح التهميش مضاعفًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. ووسط هذا كله، كان أبناء تهامة يُساقون إلى الحروب أو الهجرة القسرية، بينما بقيت مناطقهم بلا صوتٍ في صنع القرار. تهامة، التي تمتد من ميدي في الشمال إلى المخا في الجنوب، ليست فقط سهلًا جغرافيًا، بل هي مرآة تعكس تاريخ اليمن السياسي والاجتماعي. فمن ينظر إلى حالها يرى بوضوح اختلال التوازن بين المركز والأطراف في بنية الدولة اليمنية، ويرى كيف تمكّنت قلةٌ من السيطرة على موارد أغلبيةٍ صامتة. فموانئ تهامة التي تدرّ مئات الملايين من الدولارات سنوياً لا تعود بفائدة على أهلها، والأراضي الزراعية التي تُغذّي العاصمة لا يجد أصحابها ما يطعمون به أبناءهم. لكن ما يميّز تهامة ليس معاناتها فحسب، بل قدرتها على الصبر والبقاء. رغم قسوة الظروف، ما زال التهاميون متمسكين بأرضهم وهويتهم، يزرعون ويصطادون ويغنّون للأمل في وجه العواصف. ومع أن الدولة تجاهلتهم، إلا أن البحر لم يفعل. يخرجون إليه كل صباح، متعبين لكن مؤمنين بأن موجاته تحمل لهم رزقًا جديدًا، وربما وعدًا بمستقبلٍ أفضل. اليوم، وبعد قرنٍ من التهميش، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة النظر في مكانة تهامة داخل اليمن. ليس كمنطقةٍ تابعة، بل كركيزة اقتصادية واستراتيجية لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح بدونها. فإعادة توزيع السلطة والثروة، وضمان إدارة عادلة لعائدات الموانئ، واستثمار خيرات الأرض لصالح أهلها، ليست فقط مطالب إنمائية، بل شروط لبقاء اليمن دولةً موحّدة عادلة. كما أن محاربة التمييز المناطقي وبناء خطاب وطني جامع باتا ضرورة أخلاقية قبل أن يكونا مطلبًا سياسياً. تهامة المنهوبة ليست قصة جغرافيا فقط، بل شهادة على فشل الدولة اليمنية الحديثة في بناء عقدٍ اجتماعيّ متوازن. وربما آن الأوان أن يُسمع صوت البحر الأحمر وهو يهمس في آذان السياسيين جميعاً أعيدوا الحقّ إلى الساحل التهامي الذي نسيتموه، فثمن الصمت على التهميش أغلى من ثمن الحرب...