كـيف نبني جيلًا مسلحًا بالعلم والمعرفة والتعلـيم العالـي
فـي زمـنٍ تتسارع فيه عجلات العالم نحو المستقبل، وتُقاس فيه قوة الأمم لا بعدد البنادق ولا بحجم الترسانات، بل بعدد العقول التي تفكر، والمختبرات التي تبتكر، والمناهج التي تصنع نهضة، يبقى السـؤال المؤلم مطروحًا أمـامنا: "كـيف نبني جيلًا يختار القلم بدلًا من السلاح، والمعرفـة بدلًا من الفوضى، والمختبر بدلًا من المـتارس؟
لـقد أرهـقت الحروب هذا الوطن حتى كادت أن تسرق من أبنائه الحلم، فـكم من شابٍ وُلد لينير درب العلم، فإذا به يجد نفسه وقودًا لمعركة لا يعرف سببها ولا غايتها.
وكـم من عـقلٍ نابهٍ ضاع بين دخان الرصاص وغبار الجبهات، بينما كان الأجدر به أن يُضيء قاعةً جامعية، أو يبتكر دواءً، أو يُشيّد مشروعًا ينهض بالوطن من تحت الركام.
إن بـناء الجـيل لا يبدأ من البندقية، بل من الكتاب، ولا يُقاس النصر بعدد المقاتلين، بل بعدد المتعلمين؛ فـالأوطان التي فهمت درس التاريخ أدركت أن معركة البقاء تُخاض في ميادين العلم أولًا، وأن العدو الحقيقي هو الجهل، لا الآخر المختلف.
جـيل اليـوم بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز السياسة الضيقة، مشروعٍ يُعيد الثقة في العلم والتعليم كقيمة عليا، لا كوسيلة للوظيفة فقط، نحتاج إلى بيئة تُشجع البحث والاكتشاف، تُكرم العلماء لا تجافيهم، وتُقيم الجامعات لا الثكنات؛ جيلنا بحاجة إلى من يأخذ بيده من ساحات القتال إلى قاعات الجامعات، ومن لغة الدم إلى لغة الحوار، ومن الخوف إلى الأمل.
لـقد آن الأوان أن نستبدل لغة "التحشـيد" بلغة "التأهـيل"، وأن نُدرك أن الأمم التي سبقتنا لم تُحقق نهضتها بالصراخ ولا بالرصاص، بل بتربية جيلٍ آمن أن البناء أقدس من الهدم، وأن المعرفة أقوى من أي سلاح.
عـليـنا أن نزرع في وجدان شبابنا أن الوطن لا يُحرس بالبندقية وحدها، بل يُحرس بالعقل المستنير، وبالمهندس الذي يُشيد، والمعلم الذي يُربي، والطبيب الذي يُنقذ، والعالم الذي يُبتكر، والقاضي الذي يحكم بالعدل؛ فـكل خلية علمٍ تُزرع في عقل شاب هي جدارٌ جـديدٌ يُبنى في جـسد الوطـن.
وإذا كـنا قد اتفقنا أن معركتنا الحقيقية هي في ميادين العلـم، وأن عـدونا الحقيقي هو الجـهل، فـإن بناء هذا الجيل ليس خيارًا نخوضه، بل معركة مصيرية نخوضها على أعتاب المستقبل؛ إنه الاستثمار الوحيد الذي لا يُقدّر بثمن، والسلاح الأوحد الذي لا ينضب.
إنـنا لا نطالب بمستقبلٍ ورديّ، بل ننحت بالعلم واقعًا جديدًا، نصنع من رحم المعاناة وعيًا لا يندثر، ومن بين أنقاض الماضي إرادةً لا تنكسر.
لتـكن رسـالتنا واضحة للتاريـخ: لن يكون هذا الجيل، جيل الحروب التي تطحن الأحـلام، بل سنعمل على أن يكون جيلًا يرفع راية العلم في وجه كل عاصفة، ولـن نسمح بعد اليوم لأي رصاصة أن تقتل عالمًا في مهدها، أو لأي معركة أن تطفئ شمعة معرفةٍ في عقل واعد.
هـذه ليست دعوةً للسلام فحسب، بل هي إعلانٌ للحرب على كل ما يهدد عقول أبنائنا، حربٌ بالكلمات تنتصر على حروب الرصاص، ومعركةٌ بالكتب تهزم معارك الدمار؛ لأن الأوطان - كما اتفقنا - تُبنى بعقول أبنائها قبل أن تُحمى بحدودها، وتُدافع عنها بالمختبرات والفصول كما تُدافع عن الخنادق والحدود.
فـليكن شـعارنا -ونحن نواجه هذا التحدي: من الآن فصاعدًا.. كل قلم نمسكه هو حجرٌ في بناء الوطن، وكل فكرة نولدها هي نصرٌ على الواقع.
لأنـنا عندما نسلح جيلنا بالعـلم، لا نمنحهم شـهادةً فقط، بل نمنحهم وطـنًا يستحـق البـقاء.
د. هـاني بن محمد القاسمي
مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية
عـدن: 25. أكتوبر. 2025م
.