لـماذا تُـصِرُّ الـدولُ الطامحةُ إلى التقدُّم العلـمي والازدهـار الاقتصادي على جَـلْب النُّـخَب للتعلـيم، ووَضْع الكـفاءات عند التعيـين؟

     فـي مسار الدول الباحثة عن النهوض، تتبدَّى الحقيقةُ واضحةً كالشمس "لا تنمية حقيقية بلا تعليمٍ راسخ، ولا تعليمَ راسخَ بلا نُخَبٍ علميةٍ تقود سفينةَ المعرفة وترسم معالم المستقبل". 

     فـالتاريخُ لم يُسَجِّل أمةً ارتقت من وَهْدات الفقر والتخلُّف إلى قمم الازدهار، إلا حين جعلت من التعليم قضيةَ وجود، واعتبرت الكفاءات رأس مالها الاستراتيجي الذي لا ينضب.

     حيـن ننـظر إلى تجارب النهضة في شرق آسيا، من ماليزيا إلى سنغافورة وصولًا إلى كوريا الجنوبية، نجد أن السرَّ لم يكن في وفرة الموارد الطبيعية، بل في الاستثمار الواعي في العقول، وفي الاستعانة بالنُّخَب المؤهَّلة التي وضعت التعليم في صدارة الأولويات؛ هـؤلاء النُّـخَب لَمْ يُخْتَاروا على أساس الولاء الضيِّق أو القرابة السياسية، بل على أساس الكفاءة والمعرفة والقدرة على العطاء. 

     وهـنا تتجلَّى القاعدة الذهبية: "الأمم التي تضع الرجل المناسب في المكان المناسب"، تختصر على نفسها عقودًا من المعاناة، وتشقُّ طريقها نحو المستقبل بخُطًى واثقة.

     الإصـرارُ على جَلْب النُّخَب ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية؛ فالمجتمع الذي يتساهل في تسليم أمر التعليم – وهو مَصْنَع العقول – إلى غير الأكفاء، إنما يغامر بمصيره كله، وحين تُدَار الجامعات بغير أصحاب الرؤية والخبرة، يصبح التعليم مجرد شهادة ورقية، يفقد بريقه وقيمته، ويُحْرَم الوطن من الطاقات القادرة على تحويل المعرفة إلى اقتصاد، والبحث إلى صناعة، والعلم إلى قوة ناعمة وصلبة في آنٍ واحد.

     أمـا تعيين الكـفاءات في مؤسسات الدولة، فهو الضمانة الحقيقية لعدم تحوُّل الجهاز الإداري إلى عبء، ولعدم تفشِّي الفساد والشَّلَلِيَّة والولاءات الضيقة.

     فـحين يتصدَّر المشهدُ أصحابُ الخبرة لا الوافدون العابرون، يصبح القرارُ أكثر عقلانية، والسياساتُ أكثر واقعية، والتنفيذُ أكثر فاعلية.

     هـنا فقط تترسـخ الثقة بين المواطن والدولة، إذ يرى أن الفرص لا تُضَيَّع، وأن المواقع لا تُمنَح إلا لمن يستحق.

     التاريـخُ القريب والبعيد يثبت أن الأمم التي رهنت مستقبلها على أهل الولاء بدلاً من أهل الكفاءة، دفعت ثمنًا باهظًا من حاضرها ومستقبلها، بينما التي راهنت على العقول العلمية والإدارية، صنعت لنفسها مكانًا في مصافِّ الكبار، رغم أنها بدأت من ظروف أصعب وأشـد قـسوة.

الخـلاصةُ؛

     أن إصـرارَ الدول الطامحة على استقدام النُّخَب للتعليم وتعيين الكفاءات، ليس مجرد خيار إصلاحي، بل هو شرط للبقاء في سـباق الأمـم.

     ففـي زمـنٍ تتسارع فيه الخطى نحو الثورة الصناعية الرابـعة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، لـن يرحـم التاريخُ أولئك الذين أضاعوا فرص النهوض لأنهم غلَّبوا المجاملةَ على الكفاءة، والولاءَ على العلم.

     ولعـل خير شـاهدٍ على صدق هذه الرؤية نماذجُ النهضة المتلألئة في جوارنا العربي، التي تحوّلت من خططٍ طموحة على الورق إلى حقائق ملموسة تخطف الأبـصار؛ فما تشهده المملكة العربية السعودية من تحوّلاتٍ كبرى في رؤيتها الطموحة 2030، وما حققته دولة الإمارات العربية من مصافحةٍ للفضاء وريادةٍ رقميّة، وما تبنيه سلطنة عُمان من نموذجٍ للاستقرار والتنمية المستدامة، وما وصلت إليه دولة قطر من مكانةٍ دوليةٍ مرموقة، وما تحافظ عليه دولة الكويت من إرثٍ تنموي وإنساني، ليـست إلا ثمرةً يانعة لسياساتٍ حكيمة آمنت بأن الكفاءة هي معـيار التـقدّم.

     لـقد سـخّرت هذه الدول الرشيدة طاقات أبنائها، واستعانت بأفضل العقول عالميًا، ووضعت الرجل المناسب في المكان المناسب دون محاباة، فتحوّل التخـطيط إلى واقع، والحـلم إلى إنجاز.

     هـا هـي نتائج هذا النهج تُرى بالعَيْن، وتُقاس بالأرقام، ويشهد بها القاصي والداني.

     فـاللهَ اللهَ في الوطـن، ولنعمل بمثل ما عملَ أولئك القادةُ الملهِمون في دول جوارنا المباركة؛ فـهم قد قدّموا لنا الدليل العمليّ على أن الطريق إلى القمم يبدأ بخطوة واحدة: الثـقة بالكـفاءة، وتغـليب meritocracy على كل الاعتبارات الضيقة.

     إنـها ليست معادلة صعبة، بل هي إرادةٌ سياسيةٌ صادقة، ورؤيةٌ واضحة، وثقةٌ لا محدودة بإنسان هذا الوطن وقدراته عندما تُمنح له الفرصة الحقيقية، فـهلمّ نقتفي أثرهم، وننتهج منهجهم، فلعلّنا نلحق بركب الحضارة، ونكتب لأوطاننا فصلًا جديدًا من فصول العزة والازدهار.

د. هـاني بن محمد القاسمي

مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية

عـدن: 10. أكتوبر. 2025م

.