بــوصـــلـــة الـــــــــروح
في أعماق الروح، ثمة نافذة صغيرة تطل على فضا شاسع، نافذة لا تفتح بالصدفة ولا تغلق بقرار عابر، بل تنبض بقدر ما نتعلم ونعي، تلك النافذة هي الثقافة، وهي المرآة التي تعكس لنا ملامح ذواتنا، لا كما نراها في عيون الناس، بل كما نكتشفها في لحظات الصمت والتأمل.
الثقافة ليست كتاباً يُصفَح، ولا محاضرة تستمع، ولا كلمة تردد على الألسنة إنها مفتاح سري يفتح الأبواب الموصدة في داخلنا من امتلكه لم يعد يرى العالم سطحاً أملس، بل صار يقرأ في تفاصيله رموزاً وإشارات، كما يقرأ العاشق في وجه حبيبته ما تعجز الحروف عن قوله.
إنّ الوعي ليس حملاً على الكتف، بل جناحاً خفياً يرفعنا فوق الغبار من لم يعرفه عاش أسير اللحظة، يلهث خلف السراب، ومن تذوقه أدرك أن كل فكرة تضاء في ذهنه هي شعلة صغيرة في ظلام طويل.
الثقافة تجعلنا نسمع أصوات الأشياء الصامتة، وتمنحنا قدرة على رؤية ما وراء المألوف.
أيها السائر في درب العمر، لا تظن أن الثقافة تجمل المظهر أو تزيد الوجاهة، بل هي الماء الذي يسقي جذورك كي لا تيبس في صحراء الغفلة هي وطنك حين يضيق بك الوطن، ورفيقك حين يخونك الرفاق.
إنها الخيط الذي يشدك إلى المعنى، فلا تغرق في فوضى التفاهة ولا تضيع في أسواق الزيف.
كل كتابٍ تقرؤه ليس ورقاً وحبراً، بل نافذة أخرى تضاف إلى بيتك الداخلي كلّ فكرة تفهمها ليست سطراً عابراً، بل حجراً في بناءٍ يتعالى بداخلك وما أجمل أن ندرك أن الثقافة ليست تراكماً جامداً، بل هي حياة تتدفق، تروي الروح كما يروي المطر أرضاً عطشى.
لكن، ما قيمة الثقافة إن لم تعانق الأخلاق؟ وما جدوى الفكر إن لم يحرسه الضمير؟
إن المعرفة التي تنفصل عن القيمة، تتحول إلى سيفٍ باردٍ في يد ظالم، أمّا حين تمتزج بالحكمة فإنها تصير نوراً يبدد الظلمات ويقود الإنسان إلى إنسانيته الأولى.
فلنجعل ذواتنا مرايا صافية، تعكس الصدق قبل أن تعكس البريق، ولنزرع في عقولنا بذور العلم والفكر، حتى تنبت أشجاراً من وعي لا تهزه الرياح، وحين نصغي إلى العالم بعقل مثقف وروح منفتحة، ندرك أن الثقافة ليست ترفاً نزين به أوقاتنا، بل هي قدرٌ نكتب به هويتنا، وننقش به ملامحنا في ذاكرة الزمن.
فابنوا في داخلكم مدائن من وعي، قصورها من حكمة، أنهارها من رحمة، جسورها من معرفة، وحين يشتدّ ليل الحياة، ستضيء تلك المدائن كنجوم باهرة، تقول لكم إنكم لم تعيشوا عبثاً، وإنكم تركتم أثراً لا يزول.