مقترح عملي لتخفيف ثقافة التطرف والإرهاب ..
بروفيسور / قاسم المحبشي...
أثبتت التجارب التاريخية والدراسات العلمية أن ظاهرة التطرف والإرهاب لا تنشأ في فراغ، وإنما تتغذى على بيئات تعليمية وثقافية فقيرة في أدوات النقد والتفكير الحر. وفي هذا السياق تزداد أهمية الفلسفة والعلوم الإنسانية بوصفها رافعة أساسية لحماية الأجيال من الوقوع في براثن العقلية المغلقة التي تفرز الإرهاب والعنف. هذا ما خلصت إليه أبحاث متعددة، منها ورقة مارتن روز “تحصين العقل” (Immunising the Mind)، وكتاب “مهندسو الجهاد” لجامبيتا وهيرتوج، إلى جانب قراءات أكاديمية عربية، أكدت جميعها أن غياب الفلسفة والعلوم الإنسانية من المناهج العربية الإسلامية أحد الأسباب البنيوية لتصاعد موجة التطرف في أوساط الشباب.ففي عينة بحثية (497) شخصاً من الجماعات المتطرفة) وجد أن 93 منهم درسوا الهندسة، مقابل نسب أقل بكثير في تخصصات العلوم الإنسانية. ويعزو الباحثون ذلك إلى ما سُمّي بـ “العقلية الهندسية”، أي الذهنية التي تميل إلى الثنائية القطعية (صواب/خطأ، حق/باطل) أبيض أسود، خير ، شر، نحن ، هم وتفتقر إلى المرونة المعرفية، مما يجعلها أكثر قابلية للتجاوب مع الخطاب الراديكالي الذي يقدّم أجوبة جاهزة ونهائية فالتعليم العربي – في عمومه – ما زال يكرّس قطيعة بين العلوم الطبيعية والتقنية من جهة، والعلوم الإنسانية والفلسفة من جهة أخرى. هذه القطيعة تولّد انفصاماً في شخصية الطالب بين ما يتلقاه من معارف “صلبة” وما يعيشه من واقع اجتماعي وثقافي وسياسي متشابك ومعقد. إذ يظل خريج الكليات العلمية محروماً من خبرة التعامل مع القيم، والتأويلات، والنسبية، ومن خبرة النقد الذاتي، وهي كلها مقومات تتيح مواجهة الفكر المتطرف. أي تمنحه الثقافة العقلانية المستنيرة فإن العلم لا ينمو بمعزل عن الثقافة، بل يولد من رحمها ويترعرع في ظلها. والثقافة الحية هي التي تهيئ الأرضية لولادة الفيلسوف والعالم والفنان والمفكر، بينما الثقافة الجامدة تعيد إنتاج أنماط مغلقة من التفكير وتغلق آفاق الخيال والفلسفة تعلّم الفرد كيف يسائل ويشكّك ويزن الحجج، فلا يقبل الأجوبة المطلقة بسهولة والعلوم الإنسانية تتيح للطالب خبرة النظر إلى الظواهر من زوايا متعددة، ما يعزز التسامح والانفتاح فالثقافة بالمعنى الواسع تُكسب الفرد القدرة على اتخاذ مواقف متوازنة، مستندة إلى أفق معرفي واسع وبدلاً من الهوية الضيقة التي تغذي التطرف، تتيح العلوم الإنسانية تكوين وعي إنساني شامل متصالح مع الذات والآخر. وفي سبيل
التنمية الثقافية المستدامة اقترح:
اولاً: إعادة الاعتبار للدرس الفلسفي في المدارس والجامعات العربية كشرط من شروط بناء العقل النقدي.
ثانيا: أنسنة التعليم العلمي والتقني عبر دمج مقررات في الفلسفة والتاريخ والفنون وعلم الاجتماع.
ثالثا: إصلاح المناهج التقليدية التي تقوم على التلقين والحفظ، لصالح المناهج التفاعلية التي تعزز الحوار والتساؤل.
رابعا: إشراك مؤسسات المجتمع (الأسرة، المسجد، الإعلام، المدرسة) في غرس قيم التفكير الحر، بما يخلق بيئة تربوية متماسكة.
ختاما نقول: الإرهاب ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة لسياسات تعليمية وثقافية اختزلت التعليم في بعده التقني، وأقصت الفلسفة والعلوم الإنسانية. وعليه، فإن تحصين العقل ضد التطرف يستلزم إعادة بناء المنظومة التربوية على أسس عقلانية – نقدية، تمزج بين المعرفة العلمية والوعي الثقافي، بين المهارة التقنية والخيال الإنساني. فلا يمكن مواجهة فكرة مغلقة إلا بفكرة منفتحة، ولا يمكن مقاومة أيديولوجيا العنف والموت إلا بثقافة الحياة والأمل.....