اللجنة الوطنية للتحقيق منارة العدالة في ظل العتمة اليمنية

في خضم نزاع مسلح استمر لعقد من الزمان تبرز اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان باليمن كشاهد محايد وصوت للضحايا محاولةً توثيق الجراح وتأكيد الحقوق في بلد مزقته الحرب في تقريرها الدوري الثالث عشر الذي صدر في الرابع من سبتمبر 2025 كشفت اللجنة عن حجم الانتهاكات التي وقعت خلال الفترة من أغسطس 2024 إلى يوليو 2025 لتؤكد بذلك على دورها الحيوي في مسار العدالة والمساءلة هذا التقرير الذي وثق أكثر من 3000 انتهاك بحق المدنيين ليس مجرد أرقام بل هو شهادة حية على التزام اللجنة بتحقيق العدالة في بلد يعيش أهله تحت وطأة العنف.

لم يأتِ عمل اللجنة من فراغ بل وُلد من رحم الحاجة الملحة لوجود جهة مستقلة ومحايدة تقوم بتوثيق انتهاكات القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان وهو ما يجسد أهمية كبيرة في ظل حالة غياب المساءلة التي تسود الأطراف المتنازعة بفضل حضورها الميداني الذي شمل مناطق تماس وسجون استطاعت اللجنة جمع شهادات من أكثر من 13 ألف شاهد وضحية ومراجعة آلاف الوثائق مما يمنح عملها مصداقية لا يمكن التشكيك فيها هذه الجهود الميدانية المضنية هي التي تمكنها من بناء قاعدة بيانات دقيقة وموثوقة لجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة التي لا يراها العالم.

يُظهر التقرير الأخير بوضوح أن النزاع لم يتوقف تمامًا رغم الهدنة غير المعلنة وأن المدنيين ما زالوا يدفعون الثمن الأكبر فقد وثق التقرير مئات حالات القتل والإصابة نُسب معظمها إلى جماعة الحوثي كما كشف عن استمرار تجنيد الأطفال واستخدام الألغام الأرضية واستهداف الأعيان المدنية وهي جرائم تتنافى مع أبسط قواعد القانون الدولي.

 ولعل الأكثر إيلامًا هو ما وثقته اللجنة من قيود تمييزية على النساء وحالات اعتقال واختفاء قسري وتعذيب مما يؤكد أن معاناة اليمنيين تتجاوز القصف المباشر لتشمل انتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية.

إن دور اللجنة يتجاوز مجرد التوثيق ليشمل العمل كجسر بين الضحايا والمجتمع الدولي من خلال لقاءاتها مع ممثلي الحكومات والمنظمات الدولية وتقديم مخرجات عملها في المحافل الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان تضمن اللجنة أن صوت الضحايا اليمنيين يصل إلى من يملكون القدرة على التأثير هذه الجهود الدبلوماسية لا تهدف فقط إلى تسليط الضوء على الانتهاكات بل إلى حشد الدعم لآليات المساءلة وضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب وهو مبدأ أساسي لضمان استقرار أي مجتمع بعد انتهاء الصراع.

وعلى الرغم من التحديات الجسيمة التي تواجهها اللجنة من صعوبة الوصول إلى مناطق النزاع إلى القيود المفروضة على عملها إلا أن التقرير أكد على التزامها الثابت بالاستقلالية والحياد إن هذا الالتزام هو ما جعلها تحظى بثقة الأطراف الدولية والوطنية على حد سواء وجعلها الأداة الوطنية الأكثر فاعلية للمساءلة في اليمن ولعل هذا هو السبب الذي دفع مجلس حقوق الإنسان والقيادة اليمنية إلى تجديد ولايتها إيمانًا منهم بأهمية دورها في تحقيق العدالة الانتقالية.

أدركت اللجنة أن تحقيق العدالة يتطلب عملًا منسقًا ولهذا لم تقتصر توصياتها على الأطراف المتنازعة فحسب بل شملت الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي أيضًا لقد دعت الأطراف إلى وقف الانتهاكات والالتزام بالقانون الدولي وطالبت الحكومة بتعزيز استقلالية القضاء والإفراج عن المحتجزين وحثت المجتمع الدولي على دعم عملها وضمان تحقيق المساءلة هذه التوصيات الشاملة تؤكد على أن الحل لن يكون إلا بتضافر الجهود من الجميع.

 يمثل تقرير اللجنة الوطنية للتحقيق وثيقة مرجعية جديدة في سجل التحقيق الوطني باليمن ليس فقط لأنه يعكس حجم الانتهاكات بل لأنه يجسد التزامًا ثابتًا بأن يكون صوت الضحايا وأداة لترسيخ العدالة في بلد كاليمن حيث تبدو العدالة بعيدة المنال تُشعل اللجنة شمعة الأمل مؤكدة أن الحقيقة لا يمكن أن تُدفن تحت ركام الحرب وأن المساءلة هي الطريق الوحيد لشفاء الجراح وبناء مستقبل أكثر عدلًا.