إيرادات مفقودة بمليارات الدولارات.. لماذا تُسرق الأضواء بقضية الإعاشة؟

في مشهد مألوف يتكرر في إدارة الأزمات الاقتصادية، عادت الأضواء لتسلط بقوة على قضية "بدل الإعاشة" للموظفين، بينما يتم تغييب القضية الأهم والأكثر خطورة، والتي تمثل "مربط الفرس" الحقيقي لأزمة الاقتصاد اليمني المنهك تسرب الإيرادات الحكومية خارج القنوات الرسمية.حيث تم قبل أيام، أصدر البنك المركزي اليمني تعميمًا حاسمًا إلى البنوك التجارية وشركات الصرافة يأمرهم فيه بـ "إقفال الحسابات الحكومية" التي يتم إيداع عوائدها خارج الأوعية الإيرادية البنكية المخصصة في الخزينة العامة.

ومنحهم مهلة أيام قليلة فقط للالتزام، وهي مهلة يُعتقد أنها انتهت بالفعل.

هذا القرار، لو نُفذ بجدية، كان سيشكل ضربة قاضية لأكبر ثغرة تهدر من خلالها المليارات، وهي الثغرة التي أوجدت اقتصادًا ظلًا موازيًا للإيرادات السيادية.

والكارثة الحقيقية تتمثل في تسرب المليارات

كون المصادر المالية تؤكد أن تسرب الإيرادات الحكومية من ضرائب ورسوم وعبوات جمركية وثروات طبيعية إلى حسابات خاصة في بنوك تجارية أو لدى صرافين، هو السبب الجذري للعديد من الكوارث المتلاحقة منها

العجز عن دفع الرواتب كون هذه المليارات المتسربة هي التي كانت ستمول بشكل كافٍ ودوري رواتب الموظفين، بدلاً من اللجوء الدائم إلى حلول ترقيعية ومعاناتهم المستمرة.

وتدمير العملة الوطنية ففي السابق القريب جدا ، كانت جزء من هذه الإيرادات تُستخدم في بيع العملة الصعبة (الدولار) عبر "مزادات" مشبوهة. هذه المزادات كانت تُسيّر لصالح هوامير مضاربة محددة، تقوم بشراء الدولار المدعوم بسعر رسمي وبيعه في السوق السوداء بأسعار خيالية، مما تسبب في انهيار متسارع وممنهج للقيمة الحقيقية للريال اليمني وتراجع القدرة الشرائية للمواطن إلى الحضيض

خفة اليد.. وشغل الانتباه

وبدلاً من محاسبة المتسببين في هذه الجريمة الاقتصادية والمطالبة باسترداد هذه الأموال الطائلة التي تقدر بمليارات الدولارات، يتم ببراعة لافتة "سرقة الأضواء" وتحويل الرأي العام إلى قضية أخرى، هي قضية بدل الإعاشة.

هذه الاستراتيجية التكتيكية تشبه إلى حد كبير خفة يد المُشعوذ الذي يشغل انتباه الجمهور بيدٍ ليخفي به ما تفعله اليد الأخرى.

ويتم تضخيم قضية الإعاشة رغم أهميتها النسبية وإثارتها إعلاميًا لتمرير القضية الأساسية الأكثر خطورة، وهي تهريب إيرادات الدولة. وكما يقول المثل المصري الدقيق في وصف هذه الحالة: "بصّ على العصفورة"، أي شتت انتباهك بشيء تافه ليفعل الشيء المهم بعيدًا عن عينيك.

والسؤال الذي يُفرض نفسه

الآن، وبعد انتهاء المهلة الممنوحة، السؤال الملح والمطلوب من كل هيئة رقابية وإعلامية ومواطن غيور أن يطرحه بشدة هو

متى سيتم تنفيذ تعميم البنك المركزي وإقفال حسابات المؤسسات الحكومية في البنوك الخاصة وتوريدها الكامل للبنك المركزي؟

وهل ستحسم رئاسة الوزراء امرها بالتعاون الجاد والمثمر مع البنك المركزي ام تتوه في دهاليز الصراع والمماحكات الغير مجدية وتبتعد عن اعادة الحسابات للمرافق الايرادية الي البنك المركزي في عدن

هذا هو محك الاختبار الحقيقي. 

هذا هو "مربط الفرس" والرهان الذي يجب أن تتوحّد فيه جميع المطالب، لأنه الضامن الوحيد لوقف النزيف المالي وبناء أساس متين لأي حل حقيقي للأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يعيشها اليمن. فهل من مجيب؟