في الغريزة الإنانية للكائنات الإنسانية ..
بروفيسور / قاسم المحبشي..
ومن الأخطاء الشائعة في تاريخ العلوم الاجتماعية فكرة الطبيعة المدنية والسياسية للكائن البشري، التي نسبت إلى أرسطو بصيغة (الإنسان كائن مدني بالفطرة ) وأعادها ابن خلدون بصياغة أخرى، وهي الفكرة التي دحضتها الانثربولوجيا التجريبية..
وفي هذا السياق يمكن النظر إلى عمل الفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف في كتابه, الحياة المشتركة: بحث أنثروبولوجي 1995، والذي توصل فيه إلى دحض فكرة الطبيعية الاجتماعية للإنسان...
إذ كتب أن بحثه " ليس معالجة الإنسان في المجتمع كما جرت العادة بل على العكس معالجة مكانة المجتمع في الإنسان. فماذا يعني بالضبط هذا القول المقبول عموما: إن الإنسان كائن اجتماعي ؟"..
وفي سياق بحثه عن الإجابة الممكنة للسؤال توصل تودوروف إلى إن الإنسان كائن أناني ونفعي محض يهيمن عليه حب الذات والتفرد والاستحواذ ، وان اجتماعيته ليست طبيعة فطرية بل هي ثقافية مكتسبة بفعل الضرورة القاهرة التي جعلته بحاجة إلى وجود الآخرين"وتلك هي الفكرة الفلسفية التي أسست لمشروع الحداثة الغربية وحضارتها العلمانية المنتصرة اليوم, فكرة الفصل بين مجال الرغبات والشهوات الأنانية الفطرية المتأصلة في الطبيعة البشرية, ألـ(هو) المحكومة بمبدأ الليبدو, اللذة, حسب فرويد, ومجال العقل (أعدل الأشياء قسمة بين الناس) حسب ديكارت الأنا الواعية ألـ(هي) المحكومة بمبدأ الواقع, واقع العيش المشترك في المجال الاجتماعي العمومي المحكوم بالعقد الاجتماعي المدني العلماني...
في ضوء ذلك يمكننا النظر في الهويات بوصفها رهانات صراع واستراتيجيات قوى بين الفاعلين الاجتماعيين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبينهم والمجتمعات الحديثة, ولا وجود لهويات ثابتة ومكتملة وجاهزة في الظاهرة الاجتماعية، كما أنه من غير الممكن التعرف على الأفراد والجماعات مما يقولونه أو يعتقدونه عن أنفسهم, فكذلك يصعب فهمهم من هوياتهم الثقافية, بل لا بد من فهم (روح المعاشرة الاجتماعية) فيما بينهم,المعاشرة بوصفها علاقة تفاعلية تبادلية يومية بين الناس في عالمهم المعيش, عالم الممارسة الواقعية الحية " الممارسة التي تعبر بوضوح عن معناها حسب بول فيين, "..
إذ هي ليست مثالا غامضا أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركا خفيا, بل ما يفعله الناس" في حاضرهم المباشر, حيث يكدون ويكدحون ويتدافعون ويتسابقون ويتنافسون ويتصارعون في سبيل الحصول على مقدرات وعناصر العيش المادية والمعنوية، حيث تكتسب الخطابات والرموز والتصورات والأسماء والمسميات والتعريفات والصفات والهويات الفردية والجمعية أهميتها وقيمتها وفاعليتها ودلالتها،وقوتها وسلطتها, إذ إن سلطة الكلمات والرموز لا توجد في ذاتها وبذاتها, بل تستمدها من خارجها, من سلطة الذين يستخدمونها في الواقع المتعين....