من سقراط إلى قاسم المحبشي... الفلسفة بوصفها فعلًا وجوديًّا...
في تاريخ الفكر الإنساني، تقف بعض العبارات الخالدة كشواهد على تحولات كبرى في فهم الذات والعالم. من بين هذه العبارات، تبرز مقولة الفيلسوف اليوناني سقراط: "تكلّم حتى أراك"، التي لخصت مشروعًا فلسفيًا قائمًا على الحوار بوصفه طريقًا إلى معرفة الإنسان. وبعد ما يقارب ألفين وخمسمئة عام، يتردد صدى هذه الفكرة في عبارة للفيلسوف اليمني قاسم المحبشي: "اكتب حتى أعرفك وأفهمك"، واضعًا الكتابة في مقام يوازي الكلام من حيث قدرتها على الكشف عن الذات وبناء المعنى.
ففي القرن الخامس قبل الميلاد، لم يكن سقراط مجرد محاور ماهر، بل كان ثائرًا على النماذج الفكرية السائدة، إذ أنزل الفلسفة من التأمل في السماء إلى الاهتمام بالإنسان ومعرفة النفس. رأى أن ما يقوله الإنسان يعكس جوهره، فكان حديثه المفضل يدور في الأسواق والساحات، محاورًا الشباب والعامة، باحثًا عن الحقيقة عبر ما يُعرف اليوم بـ"المنهج السقراطي"، القائم على السؤال والشك والتقويم.
في إحدى حلقاته الحوارية، عندما جاءه شاب متبختر واثق، لم ينظر سقراط إلى مظهره، بل قال عبارته الشهيرة: "تكلّم حتى أراك"، مُشيرًا إلى أن الكلمة هي ما يكشف حقيقة الإنسان، لا الملبس أو الهيئة.ودفع سقراط حياته ثمنًا لفلسفته، لكنه وضع حجر الأساس لفهم جديد للإنسان، قوامه الكلمة والتفكير النقدي.
وبعد قرابة 2500 عام، يعيد قاسم عبد عوض المحبشي، أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة بجامعة عدن، إحياء هذا الوعي الفلسفي بلغة العصر. فمنذ بداياته الأكاديمية منتصف التسعينيات وتحديدا 1995م ظل يردد لطلابه: "اكتب حتى أعرفك وأفهمك"، مؤكّدًا أن الكتابة، مثلها مثل الكلام، كاشفة لحقيقة الإنسان، بل إنها تفوقه في بعض الأحيان من حيث الدقة والقدرة على التنظيم وإبراز الجوهر...
ففي محاضراته الأولى، كان يطلب من كل طالب كتابة ورقة تعارف ذاتي تتضمن اسمه، اهتماماته، قراءاته، وموقفه من الحياة، دون الرجوع إلى المرجعيات التقليدية. كان يرى في هذه الورقة أداة لفهم الإنسان في عمقه، لا مجرد بيانات أكاديمية.
كما كان المحبشي يفرّق بوضوح بين الكلام بوصفه فعلًا فوريًّا وعفويًّا، والكتابة التي تتطلب تأملًا واتساقًا ووضوحًا. ففي زمن ما بعد الثورة الرقمية، أصبحت الكتابة هي الوسيلة الأوضح والأدق للتعبير عن الذات. وفي زمن الجائحة والحجر الصحي، حيث أصبح التفاعل الإنساني افتراضيًا، أكدت التجربة أن "اكتب حتى أعرفك" ليست مجرد عبارة تعليمية، بل رؤية فلسفية تنسجم مع واقع جديد يُدار عبر الحروف والشاشات...
وإذا كان سقراط قد قال: "تكلّم حتى أراك"، فإن المحبشي يرد بعد قرون: "اكتب حتى أعرفك وأفهمك"... وبين القولين جسر فلسفي طويل، يمتد من أثينا القديمة إلى عدن المعاصرة، ومن الحوار إلى الكتابة، ومن الشك إلى المعرفة، ومن الذات إلى العالم...
ولد الدكتور قاسم المحبشي في 1 سبتمبر 1966 في يافع، لحج، وحصل على الدكتوراه في فلسفة التاريخ والحضارة من جامعة بغداد عام 2004، ويعمل منذ أبريل 2018 أستاذًا لهذه المادة في كلية الآداب بجامعة عدن. كما يشغل عضوية كل من
عضو قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في الجامعة العربية الدنماركية، عضو الجمعية الفلسفية المصرية. وعضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وعضو اتحاد كتاب مصر وعضو الهيئة الاستشارية العليا للمنتدى العربي الأفريقي.عضو المعهد العالمي للتجديد العربي.وعضو مؤسس في مركز الاصباح للدراسات الحضارية والإستراتجية وعضو مؤسس في مركز فاعلون للدراسات الإنسانية والاجتماعية. رئيس فرع اليمني للرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة...وله حضور واسع في المؤتمرات الفكرية والثقافية المحلية والدولية...
ومن أبرز مؤلفاته كتاب "فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر: أرنولد توينبي موضوعًا" (2006)، وفيه يقدم قراءة فلسفية لمفاهيم الحضارة والتاريخ في فكر المؤرخ البريطاني. كما نُشرت أبحاثه في مجلات علمية محكّمة، وتنوّعت موضوعاتها بين الفلسفة اليونانية والإسلامية، وفلسفة التربية، والنقد الثقافي..وفي أبحاثه وكتاباته يعيد قراءة التاريخ من منظور فلسفي شامل، يكشف عن العلاقة الجدلية بين الإنسان والحضارة...كما تناول العلاقة بين الفلسفة اليونانية والعربية، وكتب عن مفهوم الثورات العلمية لدى توماس كون، مؤكدًا أن الفلسفة لا تنفصل عن العلم ولا عن الحياة اليومية...كما يذكر في أحد مقالاته إلى تأثير الفيلسوف أحمد نسيم برقاوي، الذي ساعده على مغادرة “السبات الدوغمائي”، كما يصف. ويؤمن بأن الفكر النقدي ضرورة لمواجهة التحديات الثقافية والدينية والسياسية في المجتمعات العربية...
ولا تتوقف رؤية المحبشي عند حدود التعليم الجامعي. فهو في كتاباته وأبحاثه يسعى إلى ممارسة فلسفة نقدية تعيد النظر في التراث العربي، وتدعو إلى تفكيك البنى الفكرية الجامدة. يجمع بين التحليل التاريخي والنقد الثقافي، ويرى أن الفلسفة لا تكتمل ما لم تكن أداة لفهم الواقع وتغييره.بل انه فيلسوف يجمع بين العمق الأكاديمي والحس الإنساني، كما ورد في وصف الباحث حاتم الجوهري له في مقال بعنوان "قاسم المحبشي بين الذات العارفة والتمثل المؤجل" (2021). وهو فيلسوف لا ينعزل في برج عاجي، بل يسعى لبناء جسور بين الفكر العربي والغربي، وبين النظرية والتطبيق، في سبيل تطوير الوعي الثقافي ومواجهة التحديات الفكرية في العالم العربي...
ويُعرف المحبشي كذلك بمواقفه الاجتماعية، إذ كتب حول دور منظمات المجتمع المدني في بناء السلام في اليمن (2018)، كما تناول قضايا مثل الفضاء العمومي والتحضر والدين من منظور فلسفي...
كما يمثل قاسم المحبشي نموذجًا للفيلسوف الملتزم، الذي يربط بين المعرفة الأكاديمية والمجال العام. فقد شارك في مناقشات علمية، ونشر أبحاثًا فلسفية وثقافية، كما كتب في الأدب والفن، وناقش قضايا مثل الدين، والتحضر، والمجتمع المدني...
ختاما لم أكن اقصد المقارنه بين سقراط والمحبشي وانما من قبيل العلاقة الفكرية والفلسفية والقاسم المشترك بينهما في الفلسفة بوصفها فعلا وجوديا لأن ما جمع قاسم المحبشي بسقراط هو إيمانهما بأن الكلمة — منطوقة أو مكتوبة — هي فعل وجودي، يحدد ماهية الإنسان ويكشف عن وعيه وهويته. فمن الجدل السقراطي إلى الكتابة النقدية المعاصرة، تظل الفلسفة دعوة دائمة لمعرفة الذات، ومساءلة الواقع، وتحقيق إنسانية أكثر وعيًا...