حـــديــــث الــــذاكــرة

في مساءٍ يغفو فيه الضوء على كتف الأفق، حيث تلتقي الشمس بحدود السماء، تتفتح الذاكرة كوردةٍ أبدية، تتجلى فيها ألوان الحياة، وتفوح منها عطور اللحظات التي لا تُنسى كأنما كل شعاعٍ من أشعة الغروب يحكي قصة، وكل نسمةٍ من النسيم تحمل همسات الماضي، تنسج خيوط الزمن في نسيج ذاكرةٍ تعاند ذبول الأيام.

تتراقص الصور أمام عيني، كأطيافٍ تتلألأ في ظلمة الليل، تسرد حكايات عشقٍ ضائع، وضحكاتٍ انطلقت في أروقة الزمن، وتفاصيل صغيرة كانت تُشعرني بالحياة. 

أرى في كل زاوية من زوايا الذاكرة مشهداً، وكل مشهد هو قطعة من روحٍ تعاند النسيان، وتصر على أن تُظلّلني بعباءة من المشاعر الحية.

أُدرك أن الذاكرة ليست مجرد خزانةٍ تُخزّن فيها الأحداث، بل هي فضاءٌ رحب يتسع لكل ما عايشته، لكل ما شعرت به، لكل ما حلمت به.

هي نبضٌ يتردد في أعماقي، يذكّرني بأنني كنتُ يوماً ما، وأنني لا أزال حياً من خلال تلك الذكريات.

ترفض الذاكرة أن تُختزل إلى مجرد *"حدث"* في دفتر الماضي، بل تأبى أن تكون مجرد ذكرى عابرة، فتتجلى في كل تفصيلة من تفاصيل حياتي، كأنها تروي قصة وجودي.

وفي خضم هذا الحديث الداخلي، أشعر بأن الزمن قد توقف، وأنني أستطيع أن أسمع همسات تلك اللحظات، وأن أستعيد كل ما كان.

أعود إلى تلك الزوايا المشرقة، حيث كانت الأحلام تتألق، وحيث كانت القلوب تتبادل نبضات الحياة أستمتع بتلك اللحظات، وأشعر بعبقها في كل شهيق وزفير، كأنني أستعيد ما فقدته، وأعيد بناء ما تهدم.

ومع كل هذا، أدرك أن الذاكرة ليست فقط ما كان، بل هي أيضاً ما يمكن أن نكون فكل لحظة نعيشها اليوم، هي بذورٌ تُزرع في أرض الذاكرة، تنتظر أن تُروى بالحب والأمل.

إننا نكتب قصصنا في كل لحظة، وننسج خيوط المستقبل من خيوط الماضي، لنخرج من رحم الذكريات أجيالاً جديدة من المشاعر والأحاسيس.

في نهاية المطاف، يبقى السؤال: هل نستطيع أن نعيش بلا ذاكرة؟ وهل يمكن أن نكون أحياء من دون أن نحتفظ بشيءٍ من الماضي؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في عمق كل فردٍ منا، حيث تتلاقى الأزمان وتتشابك القصص، لتبقى الذاكرة هويةً تُعبر عن وجودنا، وتُرسم ملامحنا في لوحة الحياة الواسعة.

فلتستمر الذاكرة في التفتح كزهرةٍ لا تذبل، ولتظل تعانق الأفق، حيث يجتمع الضوء والظلام في رقصةٍ أبدية، تُشعل في قلوبنا شغف الحياة.