هبة الحيدري تكتب عن الصباح الذي لم تنتسب إليه ..

منبر الاخبار / المنبر الثقافي
صغيرة في عمرها كبيرة في إبداعها تخاطب كل ما يحيط بها من الأشياء وتكتب بأنامل مبدعة عن ما قالت عنه المبدعة الصغيرة هبه مسعد الحيدري الصباح الذي لم تنتسب إليه .. وفي المنبر الثقافي من موقعنا هذا منبر الاخبار ننقل حرفيا ما كتبته هذه المبدعة الصغيرة ...
صباحٌ لم أنتسب إليه !!!...
المبدعة الصغيرة هبه مسعد الحيدري ..
حينما أشرقت الشمس على قلبٍ موحش، استيقظت لا من نومٍ عميق، بل من وجعٍ مقيم. فتحت عيناي المثقلتين بالسهر، وأنا لا أعلم: أأنا أفيق من كابوس، أم أغوص أعمق في لجّة الواقع المرير؟ لم أنم، كنت طيلة الليل أعدُّ شقوق السقف، وأحصي تنهيدات صدري المثقل. أترقّب شروق الشمس وكأنها ستقتلعني من غياهب الحزن إلى بهجةٍ مرتقبة، لكن عبثًا…
حين رأيت نورها يتسلل خجولًا إلى أطراف الغرفة، قمت ببطء، جسدٌ ثقيلٌ كأنه يحمل أعمارًا من الانكسار. مشيتُ متعثرة كمن يخوض في ماء آسِن، فتحت هاتفي، فوجدت رسائل، صور، ضحكات، قلوب حمراء، تفاصيل صغيرة ليومٍ كبير… حفل تخرجهن من المرحلة الثانوية..
صديقاتي اللاتي عشت معهن أجمل لحظات العمر، يجتمعن اليوم على مسرح الوداع، استعدادًا ليومٍ طالما انتظرناه سويًا، يوم التخرج من عباءة الثانوية إلى رَحب الحياة. وأنا… بعيدة، نائية، منفيّة عن الفرح. كنت أحدق في رسائلهن كمن يشاهد حياةً حُرِم منها، وأبتلع الغصّة الحارقة في حلقي كمن يتجرّع مرارة الفقد كل صباح...
مشيت إلى المطبخ بخطى يائسة، كأني أحمل قدري بأكمله فوق ظهري المنهك. فتحت الثلاجة، مددت يدي المرتعشة إلى علبة الزعتر، وزيت الزيتون الذي اعتدت أن ألجأ إليه حين لا يسعفني الحزن بأطباق أخرى. جلست آكل ببطء، لقمة من الزعتر المغموسة في الزيت المالح تختلط مع دموعي، وأحدّق في الهاتف حيث العالم يحتفل بيومٍ كنت أحلم أن أعيشه...
غصت بي الذكرى إلى سنوات المدرسة، إلى الضحكات العابرة في الممرات، إلى التوتر قبل الامتحانات، إلى خربشات الدفاتر، إلى أحلام نسجناها سويًا تحت سقفٍ واحد، واليوم… لا شيء يجمعني بهن سوى شاشة هاتف لا تبثّ إلا طيف الوجع. كنت أشعر أن الكون بأكمله يمضي قدمًا إلا أنا، عالقة بين أمسي ووجعي...
لم يكن صباحًا عاديًا، بل صباحًا تكالبت فيه كل مشاعر العجز والخذلان والوحدة. كنت أتناول لقمة وأبكي، دون أن أجرؤ حتى على رفع رأسي لئلا أرى صورًا أخرى تمزّق قلبي الغض...
ومرّت الساعات ثقيلة حتى حان موعدي مع طبيبة الأسنان. غسلت وجهي بماء بارد كطعنة نصلٍ قاطع، فرشت أسناني بلا رغبة، كأنني أجهز نفسي لمعركة لا نصر فيها. وقفت أمام المرآة، ويا ليتني لم أفعل. لم أرَ إلا شبح فتاةٍ فقدت وهجها، ملامح ساكنة كصخرة هرِمَت تحت المطر، نظرات فارغة كأنها فقدت مفاتيح الحياة. لم أرَ ذاتي، بل رأيت بقاياها...
كان البيت كلّه نائمًا، وكأن الحزن وحده استيقظ معي. وكأن العالم بأسره قد اتفق أن يتركني أواجه وحدتي الصاخبة وحدي، بلا صوتٍ يواسيني ولا يدٍ تربت على وجعي...
عدتُ أسأل نفسي ألف مرة:
هل يستحق الغياب أن يكسر الإنسان إلى هذا الحد؟
ثم أدركت… أنني لم أفقد يوم تخرجٍ فحسب…
أنا فقدت نفسي.
فقدت الأمل الذي كان يشدّني للأيام القادمة.
فقدت النسخة التي كنت أراها في أحلامي، تبتسم بثوب التخرج، وتحمل شهادة النجاح بين يديها...
لأجل خلافاتٍ لم أخترها، ولأجل حروبٍ عائليةٍ لم أشعلها، دفنتُ حلمي بيدي، وأطفأت نور عيوني دون أن أدري. وودّعتُ سنوات طفولتي وشبابي وداعًا مرتبكًا، لم يليق به لا بكاءٌ ولا تصفيق. مضيتُ في الطريق وحدي، أحمل فوق ظهري بقايا حلمٍ محطم، وأطوي خطواتي في دروبٍ لم أخترها، وأنا أغالب في قلبي صراخًا لا يسمعه أحد. كبرتُ قبل أواني، وانطفأتُ وأنا ما زلتُ أتعثر بأحلامٍ صغيرة، كان يكفيني منها مجرد لحظة فرح، لكنها ذبلت بين أصابع الانتظار… ومضيتُ، كأنني لم أُولد يومًا إلا لأخسر...
وقفت ولبست عباءتي بهدوء الموتى، مسحت دموعي كمن يدفن مشاعره حيّة، وخرجت إلى الشارع تحت شمسٍ دافئة كانت كأنها تسخر من وجعي. كانت النسائم رقراقة، والهواء عليلًا، ولكن صدري كان مكتومًا، كأن بين أضلعي طوفانًا يُمنع عن الصراخ...
كنت أمشي وأنا أفكر: كيف لطفلةٍ في مثل عمري أن تحمل كل هذا الانطفاء؟ كيف بلغتُ هذه المرحلة من الخواء؟ كانت حياتي تقتات على ذكرياتٍ خلت، كأنني أعيش اليوم على فتات البارحة. لم يعد هناك حدث يحركني، ولا شعورٌ يوقظني، كل شيء بات ماضٍ مستهلك، حتى الفرح صار ذكرى بائسة...
كنت أسأل نفسي مرارًا: لِمَ أشعر أن العالم كله يسير إلا أنا؟
هل أستحق أن أكون في مكانٍ كهذا؟
أم لعلّي لا أستحق شيئًا أصلًا؟
كنت أقف أمام باب المستقبل، أبحث عن مفتاحه الضائع، أمدّ يدي في الفراغ، ولا أحد يمسك بها، ولا أحد يهمس لي أنني سأكون بخير...
كنت أقف بين الحياة والموت، لا أنا أعيش حقًا، ولا أنا أموت فأرتاح. كنت أتخبط بين أصواتٍ تهمس في رأسي: “ليس هذا مكانك”، “لن يفهمك أحد”، “لن يراك أحد”. حتى صوتي الداخلي كان مثقلًا بالعجز، تائهًا بين ركام الأحلام التي تساقطت تباعًا كأوراق شجرة عجوز في مهبّ الخريف...
قد يبدو شعوري مبالغًا فيه، لكن من غيري سيشعر به؟
الفوضى تسكن رأسي، والضجيج لا يهدأ.
كل أملٍ يطلّ من نافذتي، يهوي فجأة بلا سبب.
كل فكرة مشرقة، تموت على أعتاب اليأس.
لماذا دائمًا أحلامي تُكسر؟
لماذا كل الأبواب التي أطرقها لا تُفتح؟
هل أنا لا أستحق؟
أم أن قدري لا يمرّ من هذا الطريق؟..
كم تمنيت لو أن أحدهم قال لي كلمة تضيء عتمتي، لو أن نظرة حانية انتشلتني من هذا السقوط، لكن حتى أهلي كانوا غارقين في سباتهم، لا يعلمون عن معركةٍ أديرها وحدي ضد كل شيء...
مشيت تحت الشمس، بلا أمل، بلا رغبة، وكأن الأرض تلفظني، وكأن الكون بأسره لا يريدني. كنت أتساءل: هل ما أعيشه وهم؟ أم جنون؟ أم مرض لا شفاء منه؟ وإلى متى سأظل أنتظر بابًا لكي يُفتح لي، لكن لا أعرف من خلفه، ولا متى سيُفتح، ولا إن كان سيُفتح يومًا، وصوتًا لا يأتي، ويدًا لا تمتدّ؟..
كل أحلامي كانت تُبنى في لحظة وتنهار دون سبب. كلما وقفت أشعر أنني لا أملك توازنًا، كأنني أقف على حافةٍ تنزلق بي، ولا شيء يُعيد إليّ روحي. كل تفاؤل يمرّ بي كان ينكسر في صدري كفجرٍ لم يكتمل. كنت أبتسم ساعة، وأختنق ألف ساعة، وكل من حولي يراني ولا يراني، يسمع صوتي ولا يسمعه...
مازلت أعيش صراعًا لا يراه أحد، ولا يحسّه سواي، وأنا أمشي في دربٍ طويل، لا أعلم نهايته، ولا أملك حتى القوة أن أكمل أو أن أعود. فقط أمشي… أجرّ خطواتي كما يجرّ الميت أكفانه في طريقٍ لا رجعة منه...
بهذا النهار، أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئًا، ولا أطرق بابًا، ولا أمدّ يدي لأحد.
كل الطرق مغلقة، وكل الأصوات صامتة،
وأنا عالقة في المنتصف…
لا حُلم يكفيني،
ولا موت يرحمني...
هبة مسعد الحيدري...