المعلمون والأكاديميون بين التحديات الإقتصادية وتغيرات المشهد التعليمي "صمود في زمن التحولات"
فـي خضم التحـولات العميقة التي يشهدها العالم المعاصر، يقف المعلمون والأكاديميون في قلب معركة صامتة، تتقاطع فيها التحديات الإقتصادية مع متغيرات المشهد التعليمي المتسارعة، فقد بات هؤلاء يحملون على عاتقهم عبء رسالة سامية، في وقت تتناقص فيه الموارد، وتزداد المتطلبات، وتتغير أدوات العلم وطرائق اكتسابه بشكل لم يسبق له مثيل.
تعيـش هذه الفـئة - اليوم - حالة من التوتر المزدوج؛ فمن جهةٍ تثقل كاهلهم الأزمات الإقتصادية التي انعكست على أجورهم وظروف عملهم، ومن جهة أخرى يجدون أنفسهم في مواجهة أنماط تعليمية جديدة فرضتها التكنولوجيا والرقمنة، مما يستدعي منهم تجديد أدواتهم وأساليبهم باستمرار، في بيئة يغلب عليها التنافس الشديد وقلة التقدير المجتمعي.
رغـم هذه الضـغوط المركبة، لا يزال المعلمون والأكاديميون يشكلون الضمانة الأهم لاستمرارية المشروع الحضاري للأمة، بإيمانهم العميق بدور العلم، وبتفانيهم في غرس قيم المعرفة والتفكير النقدي في الأجيال القادمة، ومع كل تحدٍ جديد، يثبتون أن رسالتهم لا يمكن أن تقاس بالمعايير المادية فقط، بل تستمد عظمتها من جوهرها الإنساني والنهضوي.
لا تخفى على أحـد الضغوط الإقتصادية الخانقة التي باتت تطال المعلمين وأساتذة الجامعات؛ حيث تتآكل الرواتب الشهرية بفعل ارتفاع تكاليف المعيشة، دون أن يواكبها تحسنٌ ملموس في الدخل، وأدى هذا الخلل إلى تراجع مكانة المعلم الإجتماعية، بعدما كان يحظى بتقدير كبير يُناسب مكانته ورسالته.
وبـات كثير من المعلمـين مضطرين للبحث عن مصادر دخل إضافية، مما ألقى بظلاله على أدائهم العلمي ورسالتهم التربوية، في حين وجد الأكاديميون أنفسهم عالقين بين متطلبات البحث العلمي، وضعف الدعم المؤسساتي، الأمر الذي قوض أحلام الكثيرين منهم في تطوير مشاريع بحثية رائدة.
كما فـرضت التقنيات الحـديثة من جانب آخر؛ تحولات عميقة في أساليب التعليم والتعلم، مع صعود منصات التعليم عن بعد، وانتشار أدوات الذكاء الاصطناعي في الصفوف الدراسية، وعلى الرغم مما تحمله هذه التقنيات من فرص لتوسيع نطاق التعليم وتعزيز مهارات الطلبة، إلا أنها حملت تحديات جسيمة للمعلمين الذين لم يتلقوا الدعم الكافي لتأهيلهم لهذه النقلة النوعية، وبات مطلوبًا من المعلم اليوم أن يكون خبيرًا في تقنيات الاتصال الرقمي، ومصممًا للمحتوى الإلكتروني، وقادرًا على تحفيز طلاب يعيشون في عالمٍ مشبع بالمؤثرات الرقمية، وهو عبء لم يكن موجودًا بهذا الزخم قبل سنوات قليلة.
البـحث العلـمي في حد ذاته؛ يُعد ركيزة أساسية لتقدم الأمم، غير أن واقع الأكاديميين يكشف عن فجوة واسعة بين الطموحات المشروعة للنهوض بالبحث العلمي، وبين الإمكانات المتوفرة لهم؛ فقد أدى ضعف التمويل، ونقص الحوافز، إلى تراجع إنتاجية البحث العلمي في العديد من الجامعات، وحال دون انخراط كثير من الأكاديميين في مشاريع بحثية طويلة الأمد، كما أن اشتراطات النشر الأكاديمي الدولي، مع ارتفاع تكاليفه ومتطلباته، زادت من الضغوط على الباحثين، وجعلت بيئة البحث أكثر تعقيدًا مما يحتمل الكثيرون، خاصةً في الدول ذات الموارد المحدودة.
وعـلى الرغـم من هذه المصاعب المتراكمة، يظل المعلم والأكاديمي حاملين لراية التنوير في مجتمعاتهم، مستمرين في أداء رسالتهم بروحٍ مفعمة بالإيمان بقيمة العلم والمعرفة، فقد أثبتت الأزمات المتعاقبة أن لا نهضة ولا مستقبل دون معلمين ملهمين، وأكاديميين مخلصين، يزرعون بذور التغيير الحقيقي بعيدًا عن الأضواء.
إن دعـم هذه الفـئة، ماديًا ومعنويًا، ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة وطنية لبناء أجيال قادرة على قيادة مستقبل أفضل، يستجيب لطموحات الشعوب في التنمية والعدالة والتقدم.
وفـي الوقـت التي تتسارع فيه وتيرة التحولات الكبرى، يبقى المعلمون والأكاديميون الجدار الأخير الذي تتكئ عليه المجتمعات في صراعها من أجل البقاء والنهوض، فإن الإعتراف بجميلهم، وتحسين أوضاعهم، وتعزيز مكانتهم، لم يعد مهمة أخلاقية فحسب، يا صار رهانا على المستقبل ذاته.
أ. مشارك د. هـاني بن محمد القاسمي
مستشار رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية
عـدن:26. أبريل . 2025م