في الفرق بين المدن والأرياف !!..

بروفيسور / قاسم المحبشي ..

( ضع اعرافك وعاداتك على باب المدينة قبل دخولها )..

المدينة ونظامها المتناسق هي روح المجتمع الحديث وقد ارتبطت مدن الدول الحديثة بنظام مؤسسي مترابط الشبكات والحلقات يشبه نظام المرور وشبكة الطرقات في المدن المزدحمة بالناس والعربات إذا لم يشتغل بدقة وسلاسة وانتظام على مدار ساعات الليل والنهار تختنق المدينة ويتعثر السير  والمرور وتعم الفوضى ويتزايد الازدحام ويصاب الميدان العام بالشلل التام...

وكما يستحيل السير في المدن بدون نظام مرور جيد كذلك يستحيل العيش في مجتمع بدون نظام مؤسسات دولة فعال ينطبق على جميع المواطنين بقدر متساوي وكما أن نظام المرور هو سيد جميع العربات المتحركة وغير المتحركة فكذلك يجب أن يكون قانون مؤسسات الدولة سيدا على جميع المواطنين القاطنين في المجتمع المتعين بغض النظر عن مواقفهم واتجاهاتهم ومعتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم. وهذا هو ما يميز طوكيو أكبر مدينة مزدحمة بالسكان في العالم والقاهرة أكبر مدينة عربية أفريقية. دعه يعمل، دعه يمر! ذلك هو الشعار الذي اطلقة فيلسوف المدنية الحديثة جون لوك ت 1704م تعبيرا عن الحرية الفردية التي ازدهرت مع ازدهار الحداثة الغربية. هذا الشعر الذي يوحي بالحركة والتناسق والتحضر. المدينة هي المكان الوحيد في الكوكب الذي يجد كل فرد أنساني الراحة والأمن والأمان والنظام فيها بلا خوف ولا توتر ولا من شاف ولا من داري! شبكة المرور هي رمز المدنية وفخر الحداثة كلها...

فماذا ستكون المدن بدون شبكة المرور؟ وكيف يمكن تُخيل وضع المدين إذا تعطلت فجأءة اشارة المرور في نواصي الشوارع والجولات؟ تخيلوا كيف سيكون الحال؟ 
نظام المرور وقوانينه الواضحة الشفافية هو رمز التحديث والحداثة الأبرز في الحضارة المعاصرة وربما كان هو النظام الحديث الوحيد الذي لا يشبهه أي شيء في المجتمعات التقليدية ما قبل المدن الحديثة التي تحكمها الأعراف والأسلاف العشائرية القبلية. في الماضي التقليدي كان الناس يسيرون على اقدامهم أو فوق ظهور مواشيهم ولا يتصادمون أبدا. كلا بمرور في سبيله بعد تبادل التحيا والسلام، أما اليوم فيستحيل العيش في المدن بدون نظام فعّال لحركة مرور السيارات والعربات بل والسفن في البحار والطائرات في الفضاءات. ثمة أنظمة صارمة ودقيقة وشفافة تظم حركة السير وتجعل الحياة في المدن سلسة وممتعة وممكنة..

وقد كانت مدينة عدن الساحلة من أول المدن العربية الحديثة التي عرفت نظام المرور وشبكة المواصلات الحديثة. كتب أمين الريحاني في ملوك العرب ما يلي: 
" ففي عدن تجد المسلم الذي يصلي إلى الله والفارسي الذي يصلي إلى الشمس ، والبانيان الذي يصلي إلى الأوثان ، والمسيحي مكرم الصور والصلبان، و الاسماعيلي صاحب الزمان ، واليهودي مسبح الذهب الرنان ، كل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون ويربحون ولا يفاخرون، والتاجر وطنيا كان أو أجنبيا لا يهمه غير الأمن والنظام .." ..

وعدن هي المدينة العربية التي أنشأت فيها الغرفة التجارية في 26 أغسطس 1866م وكان أول رئيسا لها هو فيديال (من شركة لوك توماس ) وفي تتبع تاريخ نظام المرور في مدينة عدن كتب الباحث العدني بلال غانم حسين ما يلي" نسرد هذا التاريخ لأهميته كون عدن كانت في مصاف الدول العالمية المتقدمة التي استوردت السيارات ذات الماركات والمواصفات العالمية في الجزيرة والخليج في أوائل القرن الماضي, فتعالوا معي لنتعرف معاً كيف كانت عدن قبل دخول السيارات إليها وعن البدايات الأولى لدخول الماركات العالمية من السيارات فيها..

 في العام 1925م,  كان لذا رجل الأعمال أنتوني بس مجموعة مميزة من السيارات الخاصة بشركته ومنها: سيارة موديل ,Royal وسيارة موديل Chevrolet, و 4 سيارات موديل ,Studebaker و 7 باصات موديل Rachet-Schneider ذات24 مقعد, وست شاحنات نوع  Berliet و Tonners وكان هذا أكبر أسطول سيارات في ذلك الوقت في عدن.  وفي حين كان لذا رجل الأعمال الهندي جهانجير باتيل (,(Jehangir Patel سيارتان موديل Studebaker, ولكن هذا النوع من السيارات أنقرضت في نهاية الأربعينات من عدن, وبدلاً منهما أشترى السيد باتيل سيارة زرقاء موديل Opel Kapitan  وكان ذلك في  العام 1950م.   كانت السيارة موديل Lagonda, هي السيارة الوحيدة في عدن والتي كان يملكها السيد برنارد ريللي(Bernard Reilly)  مساعد المقيم السياسي في عدن آنذاك, حيث كان معظم القادة العسكريين وموظفي الحكومة الرسميين يمتلكون سيارات موديل Maxwells للعمل الرسمي والشخصي معاً ..

واضاف بلال وفي الأخير أحب أن أوضح لقرائنا الأفاضل بأنه كان هناك نظام لسيارات الأجرة في عدن فريد من نوعه, حيت كان مفتش المرور يمر كل يوم الساعة السابعة صباحاً على محطة التاكسيات في شارع الميدان بجانب مسجد خواص.  في تلك الأثناء يقف كل سواقي التاكسي في طابور واحد للتفتيش وكان ذلك يسمى (حاضري) أي الحضور للتفتيش, ويتم التفتيش على الهندام أي الملابس الخاصة لسواقي التاكسيات, تمشيط الشعر, حلاقة الذقن, نظافة الحذاء ونظافة السيارة"
( ينظر ، بلال غانم حسن، صفحات من تاريخ عدن.. البدايات الأولى لدخول السيارات إلى عدن 1907م – 1939م، عدن الغد، 9 يوليو 2011) ..

وبالمثل يرصد الباحث بلال غلام حسين تاريخ النظام القضائي الحديث في مدينة عدن في مقال( صفحات من تاريخ عدن ..التاريخ القضائي لمدينة عدن 1841م – 1962م) اشار فيه إلى إنه " في شهر إبريل من العام 1860م, وبعد ازدياد عدد السكان في عدن, وبالتالي ازدادت أعداد القضايا في محكمة المقيم السياسي كوجلان وسفر مساعده الثاني رسام في إجازة, وجد مساعد المقيم السياسي الأول بلايفير نفسه تحت ضغوط القضايا المالية وعمله كمساعد المقيم السياسي, فلم يستطع أداء واجبه على أكمل وجه, فعمل بلايفير على إعادة القاضي في بث النزاعات المالية وتم تعيين القاضي في ذلك الوقت الشيخ أحمد علي, والذي كان مشهود له بالنزاهة, والخبرة والذكاء, وكان الجميع يحترمه...

كان بلايفير يثق فيه ثقة كاملة حتى أن 
 أعطاه الصلاحيات الكاملة للبث في قضايا النزاعات المالية التي الـ 200 روبية في محكمته.  وفي ذلك الوقت كان راتب القاضي 30 روبية, ولكن نظراً لكفاءة الشيخ أحمد قرر بلايفير بإعطاء القاضي علاوة وقدرها 4 عانات في كل قضية يحكم فيها, يصل النزاع المالي فيها إلى 50 روبية.  وفي 20 مارس 1873م, توفي القاضي الشيخ أحمد علي, وفي نفس اليوم أغلقت محكمته.  وبعدها تعيين رئيس قلم المقيم السياسي وبصلاحيات القاضي, بالعمل في محكمة القضايا الصغيرة تحت الفصل رقم "40" من القانون رقم "11" للعام 1865م, للبث في النزاعات المالية تصل إلى 20 روبية...