فلسفة الابتكار لأول مرة بالمعهد العالمي للتجديد..
بروفيسور / قاسم المحبشي ...
بكر، بكرة، إبكار، إبتكار، بكير، باكر، مبتكر، بكور، بكارة ..الخ من الكلمات التي تدل على العذرية والجدة والإبداع والاختراع والابتكار وقد وردت في القرآن الكريم بدلالة مختلفة منها؛ الباكر أول النهار. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الآية (25) (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ﴿٣٦ الواقعة﴾ بمعنى بمعنى عذارى والبِكرُ: المرأةُ التي لم يَقرَبْها رجُلٌ مِن قبْلُ، بخلافِ الثَّيِّبِ وفي معاجم اللغة العربية القديمة، بَكر: (اسم)
الجمع : أَبْكُر و بِكار و بُكْران ، المؤنث : بَكْرَة ، و الجمع للمؤنث : بِكار
الفَتيّ من الإبل
بُكُر: (اسم)
بُكُر : جمع بَكورُ
بِكر: (اسم)
الجمع : أبْكار
البِكْرُ : أول كل شيء
البِكْرُ: أَول ولد للأَبوين ذكرًا أَو أُنثى
البِكْرُ: الرجل لم يتزوج
وطَعْنَةٌ بِكْرٌ: لا مثيل لها
وخَلٌ بِكر: قويّ لم يغلِب عليه المَزْجُ
صبيّ بِكْر: عفيف، لم يعرف بعد الاتِّصالَ الجنسيّ
أول كلّ شيء تجربة بِكْر
دُرَّةٌ بِكْر: لم تثقب،
نار بِكْر: لم تقتبس من نار
الفتيُّ من الإبل، الصَّغيرة من الإبل التي لم يلقِّحها الفحلُ
وَجَّهَ إِلَيْهِ طَعْنَةً بِكْراً : لاَ مَثيلَ لَها
أَرْضٌ بِكْرٌ : تَمَّ اسْتِصْلاحُها وَتُزْرَعُ لأَوَّلِ مَرَّةٍ...
ومما استحضره الآن من الحكم والأمثال الشعبية بوصفها فلسفة عملية للحياة اليومية: الباكر سلطان النهار! من بكّر ما ندم! الأرزاق ليست بالبكّارة!
وفي المعاني العربية لمعنى الكلمة"ابْتِكارات (لغير المصدر):
• مصدر ابتكرَ.
• إبْداع أو اخْتِراع، ما يُبْتدع أو يُخْترع "فنّ ابتكاريّ- تتوالى الابتكارات العلميّة في هذا العصر" ، خيال ابتكاريّ : مُبْدِع" وهذا المعنى الأخير هو ما يهمني في هذه العجالة الصباحية من وحي ندوة البارحة في المعهد العالمي للتجديد العربي، وحدة الدراسات الحضارية وعلم الاديان...
كانت ندوة رائعة بكل المقاييس كما قالت : فيلسوفة العلم العربية المتميزة، الأستاذة الدكتورة فاطمة إسماعيل، استاذة فلسفة العلوم في جامعة عين شمس العريقة ، إذ كتبت " أمين اليافعي قدم، محاضرة رائعة في فلسفة الإبتكار، لم يطرقها أحد قبله إذ لأول مرة يتم التمييز بين ثلاثة مفاهيم أساسية في فلسفة الإبتكار( الإبداع، والاختراع والإبتكار) نعم أمين اليافعي بمحاضرته الذكية البارحة فتّح افقا جديدا للمعنى لم يكن يخطر على بال الكثير من الشاب العرب. كم سعدت بمتابعة محاضرته التي جاءت أشبه بنجدة من السماء بعد حالة الإحباط الشديد التي انتابتني بسبب الأخبار المؤسف عن جامعتي عدن وصنعاء. كنا البارحة صباح الإبداع والابتكار مع نخبة واحدة من جيل الشباب العربي الذي خلق نفسه في وضع بالغ التردي. أمين اليافعي من اجود المثقفين العرب في أوروبا. حدثنا من منصة الدراسات الحضارية في المعهد العالمي للتجديد العربي عن موضوع بالغة الأهمية هم ( الإبتكار بوصفه سبيلا للازدهار والترقي ) بادارة التونسية الرائعة الدكتور روضة الدرواز أستاذة النقد الحضاري في الأكاديمية التونسية وتعقيب الدكتورة فدوى الشاهد من جامعة مراكش المغربية العريقة. ندوة رائعة فعلا كما أكد الاستاذ الدكتور. صابر أحمد مولاي، استاذ الفكر الإسلامي في الأكاديمية المغربية ورئيس وحدة الدراسات الحضارة ومقارنة الاديان..
حرصت على الحضور بدوافع شتى ليس منها: اهتمامي بالعلاقة بين العلم والثقافة وثانيا معرفة الشخصية بالباحث وقدراته العلمية والثقافية المتميزة فضلا عن الاهمية الاستثنائية لموضوع الندوة.
رغم تخصص الباحث أمين اليافعي في (التكنولوجيا وإدارة الابتكارات من جامعة براندنبورغ للتكنولوجيا بمدينة براندنبورغ بألمانيا) الإ بحكم ثقافته النقدية تمكن من تقديم محاضرة عن فلسفة الإبتكار بحسب فاطمة إسماعيل وفلسفة الابتكار تُعني ببحث الأسس الفلسفية والمنهجية التي يقوم عليها الإبداع والاكتشاف والاختراع في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية. إذ تقارب جملة من الأسئلة الجوهرية منها: ما الذي يجعل فكرة ما مبتكرة؟ وما الفرق بين الإبداع العلمي والابتكارات العادية؟ وكيف تتفاعل مناهج البحث العلمي، مثل الاستقراء والاستنتاج والنماذج الرياضية، مع عمليات الابتكار؟ وكيف تؤثر البيئة العلمية، والمؤسسات الأكاديمية، والتمويل، والمجتمعات البحثية في ظهور الابتكار العلمي؟ وما الحدود الأخلاقية للابتكارات العلمية؟، وكيف يمكن موازنة التقدم مع المسؤولية الاجتماعية؟ ومع علاقة الابتكار بالحضارات والتفوق الحضاري؟ وغير ذلك من القضايا المتصلة. الحاجة أم الاختراع! وربما يمكن وصف الكائن الإنساني بانها كائنا مبتكرا وتلك هي مزيته الرئيسية التي جعلته يتجاوز اللحظة البيولوجية ..
والسوال هو: ماذا لو لم يبتكر الإنسان الأدوات التقنية التي ساعدته على مواجهة تحديات الحياة الطبيعية؟ من المؤكد أنه سيظل كائنا طبيعيا مثله مثل الكائنات الحية الأخرى..
أن أهم ميزة للإنسان تكمن في قدرته على الاكتشاف والابتكار فالبرد القارصة دفعته إلى التفكير في البحث عن الدفىء فاكتشف النار والحر الشديد دفعه للتفكير والبحث عن ظل يقيه الشمس والمطر فاكتشف الأشجار والاحجار والكهوف والمغارات وفي سبيل قطع النهر وصيد السمك اكتشف الخشب وصنع الزوارق والسفن ومن أجل مواجهة الوحوش والضواري ومنافستها في الحصول على قوته في الغابات والبراري اخترع القوس والنشاب والسهم والرمح. وفي سبيل استصلاح الأرض وزراعتها ابتكر الفأس والمنجل وادوات الحرث والري والزراعة وهكذا كان الحال مع مشكلات الحياة الاخرى وسبل حلها وتجاوزها وعلى مدى ملايين السنين من الخبرات والتجارب في علاقة الإنسان بالأشياء صارت التكنولوجيا هي أهم عوامل التغيير والتقدم والتطور. ومن لوح الخشب العائم تطورت السفن العملاقة ومن السهم الطائر تطورت الصواريخ الفتاكة ومن الحمام الزاجل تطورت وسائل الاتصالات والمعلومات ومن الكهف والمغارة نشأت ناطحات السحاب والحصون العالية ومن النار تطورت الكهرباء ومصادر الطاقة المعاصرة ولا شيء في تاريخ تطور الحضارة البشرية جاء من خارج علاقة الإنسان بالأشياء كان التاريخ قبل الثورة الصناعية يكرر ذاته بانماط متشابهه من الحركة الدائرية التقليدية التي تدور حول فلك القوى والشروط الطبيعة للحياة الأرضية بين الأرض والسماء بما تجود به من عناصر العيش وادواتها التقليدية الأولية ومنها( الأرض والمطر والزرع والثمر والريح والانهار والبحار والمحطات والحيونات)..
وهكذا ظلت علاقة الإنسان بالإنسان شبه ثابتة عبر التاريخ بينما تغيرت علاقة الإنسان بالأشياء. إذ يوجد نمطان للعلاقات : علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الانسان بالأشياء ، الاولى ثابتة ومستقرة ولم تتغير في جوهرها منذ هابيل وقابيل وبنية القرابة الاولى ، اذا ما زال الناس كما كانوا في أولهم يحبون ويكرهون ويتزوجون ويتقاتلون اي بكلمة يمارسون ذات السلوك الذي كان يمارسه الانسان الاول حواء وآدم واولادهما يتزاوجون وينجبون ويسعون في الارض ويفسدون ويتخاصمون ويسفكون دماء بعضهم بعضا في سبيل الحصول على الارزاق والخيرات والمصالح والحاجات وعلى مدى تاريخهم الطويل المفعم بالتنازاع والتقالب والصراع ظل التاريخ البشري محكوم بالقانون الطبيعي مقاومة الفناء والحفاظ على البقاء. " اكتشف الفيلسوف الأمريكي جون سورل أمرا مهما يهمُّ العقل الإنساني. كان اكتشافه مبنيا على أبحاث طبيب باحث اسمه بينفيلد. لاحظ بينفيلد أن المرضى المصابين بنوع من الصرع يدعى (petit mal seizures) يفقدون وعيهم بشكل كامل وهم ينجزون مهام مثل قيادة الدراجة أو العزف على البيانو، ولكنهم يستمرون في أداء هذه المهمة بشكل روتيني وميكانيكي حتى مع فقدانهم لوعيهم بشكل كامل! … ماذا يعني هذا؟..
يستنتج جون سورل من هذا أن الوظيفة الأساسية للوعي ليست هي إنجاز المهام المعقدة بشكل كامل، بل تمكين الفرد من إنجازهذه المهام بشكل مرِن ومبتكر. العقل، إذن، هو القدرة على الإبتكار. إذا سلمنا بأن الإنسان حيوان عاقل، علينا أيضا أن نسلم بأن الإنسان حيوان مبتكر" ( ينظر، عبدالله الحلوى، فلسفة الابتكار، ٢٠١٦) لقد كان تعقيب الدكتورة فدوى الشاهد متناسقا ومكملا لورقة الباحث أمين اليافعي الرئيسة إذ أعجبني تركيزها على دور الثقافة في تخصيب الابتكار أو تجفيف منابعه. وهذه ما يشغلني بشأن اسباب تخلف العقل العربي وبحث سؤال كيف يمكن أن تكون الثقافة السائدة في مجتمع ما دافعا لتنمية العلم وازدهاره أو معرقلة لنموه وتطوره؟ إن اكتساب معرفة وضعية أو عقلية- أو السعي وراء العلم، والأمر سيان بكثير أو بقليل- يتحدد إلى حد كبير من خلال نظام الفكرة الشاملة الذي يسود في وقت معين في المجتمع. نظم الفكرة الشاملة – التي يقصد بها المعتقدات والمواقف والأعراف الاجتماعية، والافتراضات العامة، والمواقف الدينية والإيديولوجية المحددة – هي ذات أهمية بالغة في تاريخ البشرية..
لقد قارنها جوليان هكسلي Julian Huxley بالهياكل العظمية في التطور البيولوجي: فهي توفر البنية للحياة التي تنعشها وتلبسها، وتقرر إلى حد بعيد الطريقة التي ستعيش بها. إن القيم العليا والأهداف التي يطمح إليها المجتمع إنما يتم العثور عليها في الطريقة التي يربى بها أبناءه. وههنا يواجه المرء بحق مسألة ما إذا كان المجتمع يثمّن التحول والتغير أو يفضل النظام القائم أو القديم. فما الذي يفسر نهضة اليابان والصين والهند والنمور الآسيوية الأخرى منذ بداية القرن العشرين ، بعد أن كانت واقعة تحت نير الاستعمار الغربي وتنويعاته المختلفة، مثل ما كانت عليه المنطقة العربية تماما؟ لماذا نهضت شعوب الشرق آسيوية في الشرق الأقصى والأدنى بينما ظل الشرق الأوسط كما كان متخلفا وها هو اليوم بات يشكّل نقطة سوداء في بلاد الشرق والعالم أجمع ؟ هذا في حين كانت اوضاع الدول العربية بالقياس الى البلدان الشرق آسيوية الناهضة اليوم مثل كوريا وسنغافورة وماليزيا وتايوان بل حتى الهند والصين واليابان ، كان وضع بعض الدول العربية وقدراتها الاقتصادية أفضل بكثير من وضع الدول الناهضة قبل نهضتها طبعا؟ لماذا تعثرت حركة النمو والتنمية واليقظة والنهوض في البلاد العربية الإسلامية واين يمكن لنا العثور عن الأسباب التي يمكنها تفسير هذا الأمر ؟..
البعض يرى أن وراء نهضة الشعوب الشرق آسيوية أسباب ثقافية ، وأن الفلسفات والعقائد الفكرية الشرق آسيوية مثل الكونفوشيوسية والبوذية والطاوية والجيانية بما تمتلكه من منظومة قيمية إيجابية تحث على السلام والتناغم والانسجام والإيثار والتضحية والإخلاص بالعمل والنزعة الجماعية ونبذ الأنانية وقمع الشهوات والانفعالات العنفية والنزعة السلامية وحرية الذوات الفردية في ممارسة الخبرات الدينية ونبذ التعصب والتطرف والتكفير ومن ثم تعايش المذاهب والاعتقادات والطوائف والأفكار والأديان بكل سلاسة وتقدير واحترام في الدولة الواحدة اذ يوجد في الهند وحدها أكثر من ألفي طائفة دينية متعايشة.لقد أثارت نهضة الشرق الآسيوي حَفِيظة أوروبا الغربية وجعلتها تعيد التفكير من جديد في الشرق ومعناه وممكناته، فكان المدخل الثقافي في تفسير تلك الظاهر هو ما جذب الكثير من الأهتمام بعد أن تبين عدم كفاية المداخل النظرية الآخرى التي تم الرهان عليها في الغرب ، ومنها المدخل العسكري والأمني والمدخل المادي الاقتصادي ، والمدخل التعليمي التربوي وغير ذلك. في ضوء هذا المنظور يمكن تمثيل العلاقة بين العلم والثقافة بعلاقة الابن والأم، فالثقافة هي الرحم الحي لتخصيب وميلاد ونمو العلم، فكيفما كانت صحة الأم يكون الابن سليماً أو سقيماً. ولا تطور ولا تقدم ولا تنمية الا بمعرفة وفهم قوانين الطبيعة والتاريخ والمجتمع وحركتها ولا يكون فهمها الا بازدهار الثقافة بوصفها قوة التاريخ الإبداعية وتتعين بذلك التطور الدائم المستمر في العلوم والفنون والآداب ولا يكون ذلك الازدهار والتطور الثقافي إلا في بيئة حضارية متعافية بوصفها قوة التاريخ التنظيمية سياسة واخلاقا وتشريعا..
كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء" وهي بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات والوظائف منها:
1 - التهيؤ: كما هو الحال في التربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم الإنساني ففي رياضة كرة القدم لا يقتصر التمرين على القدمين أو الرأس فقط بل تهتم بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة..
وهذا ينطبق على كل أنواع الفنون الرياضية من الفروسية إلى السباحة وكذلك هو الأمر مع تنمية وتأهل الذكاءات المتعددة في ذات الناشئة؟ ( الذكاء الوجداني والذكاء المنطقي الرياضي والذكاء الاجتماعي والذكاء البصري والذكاء الايقاعي الموسيقي والذكاء اللغوي والذكاء العضلي والذكاء الوجودي) ففي ذات كل إنسان طيف واسع من المواهب والقدرات المتعددة التي تستدعي التأهيل والتنمية. وتلك هي وظيفة الثقافة في بوصفها الراسمال الذي يبقى بعد نسيان كل شيءٍ! فالثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) والثقافة بهذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم..
ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع. والتربية الفلسفية العقلانية السليمة لا تهتم بتنمية وتأهيل ملكة واحدة من ملكات الذات الإنسانية بل تهتم بتنمية وتفعيل كل الملكات والمواهب والقدرات الكامنة في ذات الأطفال إي تكمن مهمتها الأساسية في الإفراج في كل طالب وطالبة عما يحول دون أن يكون ذاته/ ذاتها الإنسانية الناضجة، وفي أن تخوله أن يحقق ذاته بحسب خصائصه الفردية وقدراته واهتماماته ومواهبه الشخصية العميقة التي تختزنها ذاته/ ذاتها في أعماقها وكل ما تحتاجه هو منحه الفرصة والحريّة الكافية للتعبير عنها وتنميتها، وعندما نبلغ أعمق ما في الذوات الفردية للناشئة فإن ذلك العمق هو بذات هو ما سوف يكون بنائيا خلاقا وناميا وجديرا بالقيمة والتربية والتنمية نحو الأفضل نفعاً وعدلا وجمالا وخيرا وكمالاً. وحينها تستطيع الجامعة أن تحقق مثلها الأعلى في تنمية وتنوير العقول إذ أن المثل الأعلى للجامعة لا يتمثل في منح الطلاب المعرفة بقدر ما يتمثل في منحهم القدرة على فهم واستخدام المعرفة التي اكتسبوها في سنوات حياتهم العشرين الأولى وبذلك تكون وظيفتها الجوهرية – الجامعة – هي العمل على تحويل معرفة الأولاد والبنات؛ التلميذات إذ تمنح الفتيان والفتيات القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي تمنحهم (الذكاء العقلي والعاطفي) وتشكل ثقافتهم المستقبلية. بوصفها جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل..
-2 الاستيعاب؛ بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم..
-3 الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع..
-4 الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) ذلك هو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار. لاشك بأن هناك علاقة عضوية بين العلم والثقافة، فالهدف الأساسي من التعليم والتربية هو خلق الإنسان السوي الحر القادر على مواجهة مشكلات مجتمعه وعصره بروح ايجابية وسعة أفق عقلانية مرنة وخلاقة تمنحه القدرة اللازمة على التعاطي الفعال مع واقعه وهويته وتاريخ مجتمعه وقيمه و تراثه في سياق حاضره و تحدياته المتغيرة باستمرار بما يجعله قادر على بناء مركب ثقافي علمي إنساني عقلاني جديد يمزج بين أصالة الماضي وحيوية الحاضر واستشراف المستقبل. وبذلك تكون الثقافة في جوهرها الإنساني التاريخي الإبداعي بوصفها ذلك الكل المركب الذي يشكل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وهي فضلا عن ذلك أداة لنقل السلوك ومصدر دينامي للتغيير والإبداع والحرية وتهيئة فرص الابتكار والمنافسات والمبادرات الفردية، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف والشعور بالهوية والانتماء ومن المعروف أن إي فعل أو سلوك إذا ما تكرار يصير عادة وإذا ما ترسخت العادة صارت ثقافة! فلماذا لم يتحول العلم والتعليم في المجتمعات العربية الإسلامية إلى ثقافة؟..
ختاما اليكم هذه النص المقتبس عن معنى الابتكار منذ عشرات السنوات واجهت رواد الفضاء الأمريكيين المشكلة التالية: كانت أقلام الحبر لا تكتب كلما اتجهوا في رحلة فضائية لأن نزول الحبر يحتاج إلى الجاذبية التي عادة ما تكون في مستويات جد منخفضة عندما تبتعد المركبات الفضائية عن الأرض. ما العمل إذن؟ .. شرعت الأنازا في تصميم وصناعة أقلام حبرية لا يحتاج نزول الحبر فيها إلى الجاذبية بل ينزل بتأثير من الضغط فقط. كانت هذه الأقلام الجديدة تعمل بشكل جيد … مشكلتها الوحيدة أن صناعتها كلّفت أموالا طائلة! … هنا أثبت الروس أنهم كانوا أكثر ابتكاراً من الأمريكيين! ماذا فعلوا؟ … استعملوا أقلام الرصاص في رحلاتهم الفضائية لأن هذه الأقلام لا حبر فيها أصلا .. لقد حلوا مشكلة “الكتابة” في الفضاء بدون مصاريف إضافية. مشكلتنا الجوهرية ليست مشكلة إمكانيات وموارد، بل مشكلة أفكار جيدة ..
القيمة ..والإبتكار
عندما يلطخ طفل صغير جدران المطبخ
بالطين أو ما شابه ذلك، نمسح الطين وتنتهي المشكلة. عندما نصاب بالحمى، نذهب عند الطبيب فيصف لنا البينيسيلين مثلا، فتذهب الحمى. عندما يزعجنا شخص ما بالاتصال الهاتفي المستمر، نغلق الهاتف ونتجنب بذلك هذا الازعاج … لكن ماذا سنفعل إذا كنا نعيش في عالم مليء بالأشرار؟ … نقتلهم جميعا فينتهي المشكل؟ … لا تظنوا أني أمزح … كثير من الناس يفكرون بهذه الطريقة لأنهم يفكرون ب”المنطق” فقط لا بذكائهم القيمي.قتلنا للناس لن ينهي المشكل، بل سيولد سلسلة جديدة من المشاكل لن نخرج منها أبدا. من فضائل الذكاء الابتكاري أنه يمكننا من الارتقاء إلى مستوى الذكاء الروحي (نعم “الروحي”) الذي لا يقيم صدق الكلام فقط، بل يقدر قيمة الأشياء أيضا..
خلاصة ..
عندما نطلب من مهندس أن يهيئ لنا
تصميما لبيت نريد أن نبنيه، فإننا لا نتوقع منه أن يخرج دليلا من درج مكتبه لنختار منه تصميما جاهزا. لكل بيت تصميم فريد ينسجم مع احتياجات صاحبه ورغباته وذوقه. كل تصميم ينتجه المهندس هو تصميم مبتكر يوفق فيه المهندس بين موارد الزبون وأحلامه … الابتكار هو فن التوفيق النافع بين الموارد والأحلام..