الفلسفة والطفولة أو استئناف الدهشة..


•• بروفيسور / قاسم المحبشي..

الفلسفة والطفولة أو استئناف الدهشة..
بمناسبة اليوم العالمي للطفولة..

ارتبطت الفلسفة عبر تاريخها الطويل بصورة نمطية للرجل الكهل الحكيم الذي يبدو منهمكا في التأمل والتفكير في مشكلات العالم الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) وتطالعنا الأنثربولوجيا الفلسفية منذ القرن السادس قبل الميلاد، في اليونان القديم بنماذج بالغة الرمزية والدلالة للصور النمطية التي اكتسبتها الفلسفة والفلاسفة ورموزها الفاعلة (سقراط، أفلاطون، ارسطو، الفارابي، والغزالي وابن رشد، ديكارت، كانط، هيجل ..الخ)..

ويعد افلاطون أول من صاغ نظرية للتربية في جمهوريته الفاضلة ونادى بتربية الانسان وتنمية قدراته العقلية عبر نظام تربوي وتعليمي صارم على مدى خمسين عاما في خمس مراحل تبدأ بالتربية البدنية وتنتهي بالتربية الفكرية الفلسفية. إذ وضع التربية الفكرية في قمة الهرم الذي يتربع عليها الملك الفيلسوف. ربما كان السياق التاريخي وشروط قواه الفاعلة التي تستند على عناصر القوة المادية الفجة؛ قوة الاجساد والسواعد وقوة الجماعات المنظمة والعتاد العسكري..

 ذلك السياقالبطريركي الذي شكل التاريخ الإنسانيحتى عهد قريب هو ما يفسر هيمنة النموذج الأفلاطوني الذكوري في التربية والتعليم العام. ويطلعنا تاريخ الأفكار بأن الفكر اليوناني لم يعبأ كثيرا بالأطفال و تربيتهم فلسفيا وأن انشغاله الرئيس إنما كان منصبا على تربية الكبار. فالطفل بالنسبة لهم هو حيوان صغير فحسب لا يكف عن الضجيج و الحركات الفوضوية، فيما يرى أفلاطون أن الطفل عاجز عن تجاوز المحسوسات و غير قادر على التطلع إلى عالم المعقولات والمُثل،.

 فهو لا يختلف عن الرعاع و العامة ممن بقوا سجناء عالم المادة في كهفهم المظلم. و يذهب أرسطو إلى ن الطفل لا يختلف في شيء عن الحيوان بما أنه يظل سجين الحس والجسد. و هو غير قادر لا على استعمال العقل ولا على اكتساب الفضيلة وبالتالي السعادة. إن الطفولة هي مرحلة شقاء في الوجود وهي في حياة الإنسان، تقابل الجزء الشبقي من النفس أي الجزء اللاوعي والمفتقر إلى الاستقرار والاعتدال..

 وقد هيمنت تلك الصورة السلبية المتعلقة بالطفولة وتعلم الفلسفة على أفق الفلسفة الوسيطة( المسيحية الإسلامية) ففي العصور الوسطى كان القديس أوغسطينSaint Augustin يربط بين الطفولة و اللإكمال ويلصق بالطفل الخطيئة الأصليةLe péché original للبشرية جمعاء. واعتبر بوسوييهBossuet أن الطفولة هي الظلام والإثم والحياة البهيمية.أما فلاسفة الإسلام أمثال الغزالي وابن سينا وابن خلدون وغيرهم. فقد حفلت نصوصهم بالعناية بالطفل وتربيته جسديا ونفسيا ولكن بهدف تكوينه كائنا مطيعا ومندمجا في المجتمع وليس بهدف اطلاق قدراته العقلية ومواهبه الفردية. وهي بذلك لم تخرج عن المنظور التقليدي من جهة اعتبار الطفل قاصرا أن ذهنه صفحة بيضاء يمكن أن تنقش فيها المعارف منذ الصغر..

 وقد استمرت هذه الصورة السلبية عن الطفل حتى بداية الفترة الحديثة حيث نجد فيلسوفا كديكارت ما يزال يرى أن الطفولة هي الخطأ L’erreur و أن الطفل عاجز عن إدراك الحقيقة لأنه غير قادر، بعدُ، على إحكام قيادة عقله أو استعماله الاستعمال الحسن، وكل ما هو متطور لديه إنما هو الحواس.
ربما بدأ التحول التدريجي لهذه الصورة النمطية السلبية عن الأطفال والفلسفة مع حلول القرن السابع عشر ابتداء من جان جاك روسو، في المتوحش النبيل ستبدأ صورة جديدة للطفل والطفولة في التشكل و التبلور، وهي صورة الطفل الطيب الطبيعي الذي يتوفر على قوى وقدرات يتعين إطلاقها وتنميتها إذ كتب روسو في نقد نظام التربية التقليدي" يولد الأطفال أذكياء بالفطرة ثم نقوم نحن بتحويلهم أغبياء بالتربية"..

 لكن روسو وأمثاله ممن تحدثوا عن براءة الطفل وطبيعته لم يجرؤوا على اعتباره كائنا ميتافيزيقيا قادرا على التفلسف بذاته.ربما كان أوضح فيلسوف دعا إلى تعليم الفلسفة للأطفال هو الفرنسي مونتين إذ أكد" أن الأطفال قادرون على تعلم الفلسفة ومن جهة ثانية، أن الفلسفة ضرورية في تربية الأطفال . فإذا كانت غاية التربية إعداد الأطفال للحياة فالفلسفة هي السبيل إلى هذا الإعداد، و حيث إنه لا توجد سن محددة للشروع في تعلم العيش بل الأمر يتعلق بالعمر كله فكذلك الشأن بالنسبة لتعلم التفلسف، فهو خاصية إنسانية من الصغر و حتى الكبر...

 إن الفلسفة جديرة بتعليم الأطفال الحذر اللازم لحياة سليمة و تقيهم من كثير من الصعوبات و المشاكل، على أن مونتين يرى أن ثمة مجالات في الفلسفة لا تلائم الأطفال (الجدل مثلا) كما أن هناك مجالات بسيطة مفيدة لهم. لذا يتعين اختيار ما هو مناسب من مواضيع و نصوص لتعليمهم تبعا لسنهم".ولا ينحصر تعلم الفلسفة من قبل الأطفال لدى مونتين على القراءة فحسب، بل يتعداه إلى الكتابة، أيضا.غير أن دعوات هؤلاء الفلاسفة ظلت مجرد دعوات لم يتبعها سعي حقيقي إلى فتح باب تعلم الفلسفة أمام الأطفال، و كان علينا انتظار القرن العشرين لنشهد بداية النضال من أجل النزول بسن تعلم الفلسفة إلى ما قبل المراهقة أو ما قبل السنة الثانية باكلوريا. و كان علينا انتظار تطور العلوم الإنسانية و خاصة منها الدراسات السيكوسوسيولوجية التي أبانت عن أن الطفل كائن ذو شخصية متميزة و قادر، في سن مبكرة، على التفكير المجرد و التفكير النقدي. و زيادة الوعي بحقوق الطفل بما فيها حقه في التفكير الحر و التعبير المستقل. وذلك هو حققته هذه ثورة تدريس الفلسفة للأطفال التي تزامنت بين فرنسا وامريكا إذ تشير الدراسات الى أن فرنسا على وجه الخصوص كانت مسرحا لهذا الدعوة. إذا تشكلت هناك مجموعة للدفاع عن تعلم الفلسفة و توسيع نطاق تدريسها و عملت على تقويض الحجج التي استند عليها دعاة الإقصاء و هذه الحركة مشهورة باسم الكريفGREPH الذي هو اختصار لمجموعة الأبحاث في تعليم الفلسفة Groupe de recherches sur l’enseignement de la philosophie .تأسست مجموعة الكريف سنة 1974 برئاسة الفيلسوف جاك دريدا و ضمت عددا من الفلاسفة أشهرهم فلادميرجانكلفيتش، و التحق بصفوفها جل الباحثين في الفلسفة و مدرسيها بالجامعة و الثانوي و شارك في ندواتها فلاسفة كبار من أشهرهم بروني R. Brunet و دوزانتيJean-Toussaint Desanti و شاتليFrançois Chatelet و دولوزGilles Deleuze و كولومبيلJeannette Colombel و غيرهم...

و قد تقوت الحركة عندما تحولت إلى جبهة لمقاومة الإصلاحات التي أعلن عنها وزير التربية الفرنسي المشهور روني أبي René Haby و التي كان من بين أهدافها الرئيسة إقصاء الفلسفة من التعليم الثانوي التأهيلي.المسيوهابي شغل وزيرا للتربية الوطنية في حكومة جاك شيراك و حكومتي ريمون بار الأولى و الثانية و ذلك ما بين 28 ماي 1974 و 5 أبريل 1978، و كان الرئيس الفرنسي، آنذاك فالري جيسكارديستانغValéry Giscard D’estaing 1974/1981 يتحدث عنه كخبير و تقني في البيداغوجيا. أصدر المسيوهابي سنة 1975 إصلاحا عرف طريقه إلى التصديق سنة 1977، يتمركز هذا الإصلاح على فكرة نظام الإعدادية الوحيدة Collège unique و بالتالي توحيد التخصصات و المسالك، و يقوم، فيما يخص الفلسفة، على إدراجها في السنة الأولى ثانوي بمعدل 3 ساعات أسبوعية، لكنه يجعل تعلمها قي القسم النهائي للباكلوريا أمرا اختياريا optionnel... لقد نزل هذا القرار كالصاعقة على المشتغلين بتعليم و تعلم الفلسفة إذ نجم عنه تقليص كبير في حصص تدريسها و تجميد لتوظيف مدرسي المادة لسنوات خلافا لكل التوقعات لم تتحقق في فرنسا و إنما في الولايات المتحدة الأمريكية باسم تيار تعليمالفلسفة للأطفال.لقد اعتمد صالح الوائلي في تحذيره من مخاطر تدريس الفلسفة للأطفال من فرضية قصور الأطفال وعجزهم عن فهم الأفكار المجردة إذ كتب " في الواقع موضوع الفلسفة ومسائلها من المحال على الأطفال إدراكها، والسبب هو أنّ المسائل الفلسفية تحتاج إلى بلوغ ونضوج عقلي، والطفل إلى ما بعد سنّ المراهقة لا تتوفّر لديه هذه القابلية، فهو يدير دفّة مدركاته بالحسّ والخيال والوهم، وليس لديه قدرة التجريد وإدراك مسائل ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) التي هي مجال البحث الفلسفي.إقحام عقل الطفل في مسائل الفلسفة يعني تشويهًا للفلسفة وإرباكا لذهن الطفل؛ لأنّه سيضطرّ لأن يجسد هذه الأفكار بشكل خيالي وهمي، وهو خلاف الهدف من التفلسف..

 كما أنّ الطفل سوف ترسخ في ذهنه مفاهيم مخطوءة من الصعب اقتلاعها بعد ذلك، ولعلّ هذا النوع من التعليم للأطفال سينتج لنا أجيالًا غريبةً في تفكيرها وسلوكياتها" وهذا الاعتقاد في عدم كفاءة الأطفال لتعلم وفهم الأفكار المجردة صار من مخلفات الماضي إذ جرى الاعتقاد جرى ترسيخ الاعتقاد أن الطفولة هي مرحلة عمرية في حياة الكائن الإنساني تأتي بعد المهد والفطام وتمتد من السنة الثالثة حتى الثالثة عشر.تعقبها المراهقة حتى البلوغ في الثامنة عشر من العمر. وتعد هذه المرحلة العمرية في حياة الإنسان مرحلة القصور العقلي التي يستدعي الرعاية بالتربية والتعليم من الراشدين. غير أن هذا الاعتقاد لا يعدو كونه ترسيما إيديولوجيا تاريخيا وليس من طبائع الأمور كما ترسخ في تاريخ الثقافة الذكوري الطويل، وتلك هي مفارقة المعتقد بحسب(بورديو،الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعفراني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2009م) وقد بينت بعض الدراسات "أن مفهوم الطفل كما نتداوله حاليا أي ككائن بشري في سن محددة تسبق المراهقة و ذي شخصية متميزة ومستقلة..

هذا المفهوم عن الطفل لا يتجاوز عمره المائة سنة، و حتى عندما تشكل مفهوم الطفولة تدريجيا ولاحقا في الفترة المعاصرة ظل مسرحا لأكبر التناقضات النظرية حيث نجد الباحثين يختلفون في تعريفه كما يختلفون في تحديد المدة الزمنية للفترة العمرية المسماة طفولة و يختلفون، كذلك، في ضبط معايير الانتقال من مرحلة الطفولة إلى ما بعدها، و كذا المعيار المعتمد في تحديد هذا الانتقال أهو نفسي أم جسدي أم عقلي وفي كثير من المجتمعات لا يتحدد الانتقال من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التي بعدها اعتمادا على السن و إنما بحسب طقوس معينة تعرف في حقل الأنثربولوجيا بطقوس المرور أو الانتقال Les rites de passage أي بعد النجاح في القيام بطقوس معينة كاستظهار متون خاصة أو تأدية رقصات محددة أو القيام بأفعال لصالح القبيلة أو الختان أو الصيام أو ما إلى ذلك.ومن جهة ثانية، ذهب باحثون آخرون إلى أن ما يسمى بالطفل أو الطفولة إنما هي فكرة للراشدين يتداولونها فيما بينهم لتحقيق أهداف سياسية أو إيديولوجية دون أن ترتبط حقيقة بواقع الطفولة، هذا ما جعل، مثلا، باحثا كبرونرBrauner يعلن أن "كتبنا عن الأطفال قد كذبت" و ذلك بعد أن استفاق على البون الشاسع بين واقع الطفل و الدراسات التي أنجزت عنه أو الكتب التي ألفت عن الطفولة"( ينظر، مصطفى بلحمر،  الطفل و الفلسفة: هل هناك فلسفة قاصرة ؟ الحوار المتمدن) .وهناك جدل كثير لا يتسع المجال لعرضه هنا. وبالنسبة لأغراض هذه الدراسة نجمل القول: بأن مصطلح الأطفال يراد به التلاميذ والتلميذات الذين/تن/ يتلقون تعليمهم النظامي في المدرسة من الابتدائية حتى الثانوية...

وقد أثبتت التجارب المخبرية أن هذه النمط من التعليم حيثما وجد قد افضى إلى التعليم الى:
1- تربية وتنمية ثقافة السؤال والحوار العقلاني في المدرسة من خلال الانطلاق من أسئلة الأطفال نفسها وإشراكهم في التفكير بالمشكلات الحيوية.
2- حث الأطفال على كتابة نصوص سردية تتمحور حول انتماء الطفل إلى شخصيات وحالات (تستحضر البعد الإنثربولوجي).( ماثيو ليبمات،اكتشاف هاري ستوتلميير 1974).
3- تحفيز التفكير الذاتي عند الأطفال وتخصيص حيز للكلام وتبادل الأفكار معهم بشأن  المشاكل الحيوية التي تحيط بهم ويعشونها في حياتهم اليومية المباشرة  فضلا اثارة النقاش حول المشكلات الفلسفية العامة الحرية والعدالة والأنانية والايثار والخير والشر والقبح والجمال والعقل والكلام و البيئة، الفقر، المساواة  والعنف والتطرف.الخ. وتكون المناقشة حرّة، شريطة استحضار النقد والدليل والحجة. ويرى الفيلسوف البرجماتي جون ديوي: "تخولنا وجهة نظر التربية  أن ندرك المشاكل الفلسفية حيث تنشا وتنمو في عقر دارها، حيث آلـ "نعم" والـ "لا" تعبران عن معارضة عملية" وإذ ما رأينا في التربية تكوين النزعات الأساسية الفكرية والوجدانية التي تتعلق بالكون والله والعالم والتاريخ والإنسان والحياة والموت والخير والشر والجمال والقبح  لعرفنا أهمية تربية العقل وتنمية ملكة التفكير النقدي عند الأطفال...

في الواقع يحتاج مشروع تدريس الفلسفة للأطفال، أكثر من هذه العجالة، فهو جدير بالمزيد من البحث والدراسات المعمقة لما ينطوي عليه من أفكار بالغة الأهمية على صعيد الدراسات التربوية والتعليمية. فمن ماذا تخاف يا شيخ صالح الوائلي؟ لاسيما ونحن نعلم أن مشروع تدريس الفلسفة للأطفال لا يعتمد تدريس الأفكار الميتافيزيقية المجردة التي يعجز عن فهما الكبار بل يهتم بتعليم القيم والمواقف الإنسانية المعاشة بطريق الحوار والاشتباك مع المواقف والمشكلات الحيوية التي يعيشها الأطفال في حياتهم اليومية. إذ يقوم المشروع على تبسيط الفكر الفلسفي باستخدام ادوات جديدة في التعبير والتصوير والحوار، تستلهم الفن والأدب عبر السرد القصصي للشخوص والمواقف والاتجاهات والمعضلات.وقد أثبتت الدراسات الميدانية والتغذية الراجعة من المدارس التي استنتجت مدخل ليبمان في تعليم الفلسفة للأطفال فروقا ايجابية قابلة للقياس بين الأطفال الذين تلقوا هذا النمط من التعليم وغيرهم الذين لم يتلقوه، من حيث الذكاء والقدرات المنطقية والروية الكلية للعالم ومشكلاته.ويدل انتشار هذا النمط الجديد من التعليم في عدد واسع من دول العالم المتقدمة على ما ينطوي عليه من ممكنات تربوية وتعليمية واعدة في تأهيل وتنمية عقول الأجيال الصاعدة على أسس فكرية إنسانية عقلانية سليمة وواعدة...

وتستدعي أزمة التربية والتعليم في العالم العربي اليوم الاستفادة الملحة من هذا المشروع التربوي التعليمي والشروع التدريجي بتطبيقه في مدارسنا بابتداع الأدوات والسبل المتناسبة مع ثقافتنا.تجدر الإشارة إلى أن غياب الفلسفة وتهميش العلوم الإنسانية والاجتماعية في عدد من الدول العربية والتي لازالت بعضها تحرم تدريس الفلسفة في جامعاتها. قد أفضى إلى شيوع ثقافة التعصب والتطرف والعنف والإرهاب، وتشير دراسة علمية حديثة أعدها الخبير البريطاني مارتن روز، كبير مستشاري المجلس البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعنوان ( تحصين العقل) 2018م الى أن معظم المنجذبين للتطرف والإرهاب هم من اولئك الشباب المتخرجين من التخصصات العلمية البحتة كالطب والهندسة والذين لم يستنهجوا الفلسفة والعلوم الإنسانية. وفي تفسيره لهذه الظاهرة صاغ مفهوم العقل الهندسي بوصفه عقلا منمطا على بعد واحد للمعنى هو الخطأ والصواب على عكس العقل النقدي الذي ينظر الى الحقيقة من منظور احتمالي نسبي( ينظر، سمية متولي السيد، التخصصات العلمية للجماعات الإرهابية موقع رسالتنا 2016/5/8). فهل آن الأوان لتوطين وتمكين أشرف العلوم؛ محبة الحكمة في الدول العربية المعاصرة؟..

مع الأطفال تستعيد الفلسفة روحها حيث تولد الدهشة ويتولد العجب وتثار الأسئلة في منابعها الأصلية الفطرية البريئة من الأوثان والاحكام والتحيزات. وهناك فرق بين نمطين من مناهج التربية التعليم: منهج النقل والتلقين السائد في التعليم التقليدي إذ ينطوي في بنيته التربوية على مفارقة منطقية؛ فهو من جهة يدعو إلى تعليم عقول التلاميذ معارف سابقة جاهزة ومكتملة التكوين ومن جهة أخرى يدعوهم إلى التخلي عن عقولهم وعدم الثقة بها، فضلا عن كونه يقوم على فرضية خاطئة في النظر إلى عقول المستهدفين بالتعليم بوصفها أوعية ثابتة وجامدة يمكننا حشوها بما نشاء من معارف وأفكار جاهزة عبر النقل والتلقين دون الخشية من سوء الفهم والتاؤيل أو دون أن يخامرنا الشك بسلبيتها المطلقة في التلقي والحفظ والتخزين والاستعادة تماما كما نقوم بنقل الأموال وايداعها في البنوك الإسلامية كأمانة ثابتة نستعيدها وقت الحاجة بدون ربح أو فائدة! هذا النمط من التعليم المسمى بالتعليم البنكي، يكون فيه المعلم الشيخ أو الناقل هو الطرف الإيجابي الفاعل بينما يكون المستهدف بالتعليم (التلميذ)هو الطرف المتلقي السلبي إذ تقتصر وظيفة هذا الأخير على حفظ ما نُقل اليه واسترجاعه استرجاعا حرفيا دون بذل أي جهد فكري نقدي للفهم والتدبّر والتأويل والتفسير! وكلما زاد انتشار هذا النمط من التعليم التقليد كلما زاد عدد الأشخاص المنمطين تنميطاً صارماً في محاولة عابثة لاستنساخ النسخة الأصلية التي اثبتت الخبرة التاريخية والتجربة الاجتماعية استحالة نقلها وحفظها وتلقينها واسترجاعها بحذافيرها وذلك من طبيعة التاريخ الذي يستحيل إعادته مرتين! لان احداثه نوعية وفريدة في معطياتها التاريخية الزمنية والمكانية وسياقاتها الاجتماعية والثقافية، وكل محاولة لاستنساخ التاريخ هي مهزلة عابثة ! وهكذا يمكن القول أن التعليم الذي لا يوسّع من مدارك المستهدفين وينمي معارفهم وفهمهم بموضوعات ومشكلات واقعهم وعالمهم ويزودهم بالقدرة والذكاء الفعّال لمواجهتها وحلها،لا قيمة له ولا فائدة، فضلا عن كونه ممارسة لتكريس الجهل والتجهيل المزدوج ! وتكمن خطورة هذا النمط من التعليم التقليدي في قدرته على تشكيل وتنميط عقول المستهدفين تنميطاً صارماً وجعلها تعتقد انها وحدها من يمتلك العلم والمعرفة الصحيحة وما خلاها هو الجهل والضلا. وكلما تم تشكيل الاذهان على نمط من أنماط الاعتقاد المعرفي كلما بات من الصعب تغييرها! والمعرفة ليست اعتقادا مغلقاً بل هي ويجب أن تكون انفتاحا دائما للعقل على كل جديد وإنشغالا متقدا للفهم والذكاء في محاربة الجهل ونقد وتصويب الأخطاء وحل المشكلات وتصحيح المناهج والمسارات.
يبدأ العقل بالدهشة ثم السؤال ثم التفكير وينتهي الى الفهم...

الدهشة لا تأتي إلَّا في لحظة اغتراب الكائن، إذ تجعله يرى العالم عن بُعْد بعكس القرب المُدْمَج، فأكثر الأشياء قُرْبًا مِنَّا هي أكثرها بُعْدًا عن فهمنا! فالغارق بالبحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقيمها وتقديرها كما هي عليه بالواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب.البعد يكشف والقرب يعمي. إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة لكي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا بحسب (روسو)...

والدهشة ليست مُجَرَّد تعجُّب، بل هي أشبه بالكشف والانكشاف، وهي بحسب (جان جرش) في كتابه "الدهشة الفلسفية" لحظة مفارقة في حياة الكائن يتفتح عقله لاستقبال إشارات الحقيقة سواء كانت تلك الحقيقة مرتبطة بالماديات أو بالإلهيات، فالإنسان العارف هو الذي يكون مندهشًا من أبسط وأقل الأشياء الموجودة في العالم، لأنه يرى الأشياء بمنظار الاندهاش، وهذا الاندهاش هو الذي يلهمنا لعبة التساؤل وسط غموض المعنى وصخب الحياة وتمظهراتها الحسية الانفعالية. وهكذا تعاود الفلسفة الحضور في كل عصر من العصور...

ختاما : لقد كانت الفلسفة لدى اليونان( ومازالت) هي الباثوث pathos، أي الاحساس الانفعالي المفرط الذي يحرك الانسان اندهاشاً نحو التساؤل الحر وكشف المعاني العميقة للحياة. والطفل من تلك الناحية لا يستنكف اندهاشاً متكرراً يأتيه كالبرق طوال الوقت ولو حدث مئات المرات تلو المرات. فليس يوجد كلل ولا ملل لدى الطفل من مشاهدة العالم كما لو لم يره من قبل. الدهشة الفلسفية الطفولية تعد حدثاً، موقفاً حياً، انتاجاً طازجاً حول الأفعال وردود الأفعال. وليست الدهشة فكرة صورية وجدت موضوعها اتفاقاً في هذا العالم التلقائي. لأن كل دهشة من هذا القبيل تلتقط دلالتها من رحم المعضلات التي تواجه الفكر. وبهذا تتميز تلك الدهشة بالأصالة الإنسانية. لكن: كيف سيجري ذلك الوضع، وما هي تداعياته لدى الأطفال؟..