الأديب والباحث اليمنى الدكتور نزار غانم لـــ«الأهرام»: الأصل فى الإنسان ماذا أنت وليس من أنت ؟؟.
حاوره / أسماء الحسينى..
الدكتور نزار غانم..
استقرار مجتمعاتنا يتوقف على التخلص من موروثات الاستعمار التبادل الحضاري بين شعوبنا وأبحاث العلم ينفيان النقاء العرقى المزعوم..
الدكتور نزار غانم هو طبيب وأديب وشاعر ودبلوماسى يمني، وأستاذ جامعى وباحث فى مجال التراث والفنون فى اليمن والمنطقة العربية وإفريقيا، أسس لمشروع فكرى يدعو للتقارب العربى العربى والعربى الإفريقي، وأطلق العديد من المبادرات للتقارب بين الشعوب عبر الفنون والآداب، كما أسس مشروعا لتقديم الخدمة الطبية للمبدعين فى اليمن، وله العديد من المؤلفات، من بينها «فى الثقافة الأفرويمنية»، «بين صنعاء والخرطوم»، و»جذور الأغنية اليمنية فى أعماق الخليج»..التقته «الأهرام» فكان الحوار التالى:
بداية هل تعرفنا على سنوات النشأة و التكوين؟.
ولدت عام 1958م فى مدينة عدن لأكون الابن الأصغر لوالدى الذى كان شخصية عامة معروفة فى عدن وعربيا فى حقل التربية والبحث الأكاديمي، وهو الشاعر البروفسور محمد عبده غانم أول خريج يمنى من جامعة حديثة هى الجامعة الأمريكية فى بيروت عام 1936، ووالدتى منيرة هى كبرى بنات رائد الصحافة الأهلية فى عدن الروائى والمفكر محمد على لقمان، تأثرت لا شك بهاتين الشخصيتين وبأخوالى من آل لقمان، وكذلك بأشقائى وشقيقاتي.
أحببت القراءة و متابعة الإذاعة منذ الصغر، وكنت أشاهد عددا من كبار الشخصيات فى صالون والدي، وكان للمدرسة أثر عظيم فى تشكيل وعيى بالحياة العامة، وكنت أساهم فى صحيفة الحائط منذ الصغر، واشتركت فى فريق الكشافة، لكن علاقتى بالرياضة البدنية لم تكن على ما يرام وكان جسمى هزيلا فلم أكن لأسلم من التنمر، وسرعان ما أخذت كصبى نصيبى من حضور مشاهد العمليات الفدائية التى وجهها ثوار البلاد ضد الاستعمار البريطانى فى الجنوب العربي، والتى كانت تستلهم المد القومى التحررى يومها، ثم مشاهد الحرب الأهلية المدمرة بين جناحى القومية والتحرير اللذين واجها بريطانيا، ثم تواجها فيما بينهما فى حمام دم لا ينسي، لكن تيار اليسار الطفولى سرعان ما غير السياسة التربوية والتعليمية بجرعة فوق المعقول من «الأدلجة» والتوجيه الاشتراكى العلمى مما أفقد المدرسة دورها الرائد فى التثقيف، وحولها الى شبه مدرسة حزبية تنظيمية، وترافق ذلك مع مصادرة كل الصحف الحرة الأهلية لتختزل فى نشرتين حكوميتين، ووصلت مقصات الرقابة الى مجمل الإنتاج الفكرى ومؤسساته، وأصبح لا صوت يعلو فوق صوت الحزب، ويمكن تقدير عدد النازحين من جحيم الإرهاب السياسى فى مطلع السبعينات من القرن المنصرم بما يزيد على المائة ألف مواطن، ومثل هذا نزيفا مبكرا للأدمغة و فقدا للتنوع الخلاق الذى هو فطرة المجتمع اليمني. وفى نظرى كانت الميزة الكبرى للحكم الشمولى يومئذ أن انفتح على الريف وحرص على محو الأمية وتمكين المرأة و إزالة التراتب الطبقى والاجتماعى الظالم والسلبى الموروث. وبحلول شهر أكتوبر من عام 1972 كان كل أفراد أسرتنا قد غادرت عدن..
هل يعنى هذا أنك لم تتمكن من إكمال دراستك الأولية فى مسقط رأسك ؟.
نعم بدأت الغربة بالنسبة لى بإكمال المرحلة الابتدائية فى لندن ثم انتقلت الى مدرسة داخلية فى جبل لبنان لأتلقى التعليم الإعدادي، وأقرأ لجبران خليل جبران وأزداد وعيا سياسيا بوجود الصحافة اللبنانية التعددية، وكنت استمع من وراء السور للفنان فريد الأطرش حينما يحيى حفلاته الصيفية فى مدينة بيسين عالية، ثم أطلت الحرب الأهلية فى لبنان لتستمر طويلا بعد ذلك، وأجد نفسى أنزح مع أسرتى إلى السودان حيث تلقيت التعليم الثانوى فى مدرسة إرسالية كاثوليكية اسمها «كمبوني»، وهناك على مقرن النيلين أخذت ملامح شخصيتى كشاب تظهر من حيث إرهاصات الشعر وفك أسرار آلة العود، وكان يحركنى يومئذ إحساس قومى صادق..
السودان هى مصدر الإلهام وبداية الإنتاج الفكرى إذا صح القول؟.
نعم بذرة الإبداع نمت فى أم درمان، لذلك كان هواى و ما زال سودانيا، وتوثقت رابطتى بالسودان طوال سنوات دراسة الطب بجامعة الخرطوم، واخترت أن أعود إليها مستشارا ثقافيا لسفارة اليمن بالسودان مطلع الألفية الحالية ثم استقريت بها فى السنوات الثمانى الماضية أستاذا مشاركا للطب المهنى والبيئى بجامعة الأحفاد للبنات وجامعة النيلين وكنت قد جئتهما بعد حرب اليمن التى اشتعلت عام 2015، لاسيما أننى أحمل جنسية السودان منذ سنوات..
رغم هذا الهوى للسودان اخترت أن تعيش فى اليمن قبل الحرب التى منحتها فيما يبدو جل ما تراكم عندك من خبرات طبية وإبداعية و معرفية؟.
لعلنى ممن يستشعر فكرة (التحدى والاستجابة) كطاقة إيجابية، صنعاء تحديدا قدمت لى ذلك التحدى الذى سبق الوحدة اليمنية كجنوبى يعمل وينتج فى أجواء عاصمة الشمال السياسية والتاريخية، لقد بدأت هذه الاستجابة بالانضمام للقوات المسلحة (السلاح الطبي) كضابط لأربع سنوات تطوعية وعدت منها إلى الحقل المدنى مدرسا لتخصصى الدقيق من جامعة لندن فى الصحة و السلامة المهنية و البيئية، وأخذت فى الترقى حتى أصبحت أستاذا مشاركا لطب المجتمع والصحة العامة، لكن المشهد بأكمله تغير و ظهرت استحقاقات جديدة بإتمام الوحدة اليمنية حيث كانت الفترة 1990-1994 فترة ذهبية لحراك اجتماعى يحسب للعمل الأهلي، ووقتها ثابرت مع ناشطين وناشطات مثل د. عبدالعزيز السقاف ود. رؤوفة حسن عليهما الرحمة من أجل عقد المؤتمر الأول للمنظمات غير الحكومية اليمنية و تشكيل ضغط اجتماعى على أصحاب القرار لتغيير القانون البوليسى لعام 1963 الذى كان يخنق الحراك المدني، الى أن تكلل ذلك بإصدار القانون رقم 1 لعام 2001 الذى أتاح أفقا أكبر يتناسب مع تطلعات الناشطين والناشطات وكان سبق ذلك تعيينى مستشارا لنشاط القطاع الأهلى لوزير الصحة والسكان، وهى الفترة التى حرصت فيها على تنسيق الجهود دوليا فيما يختص بالعمل الطوعى والمدني..
فى إنتاجك الفكرى تدعو لتأريخ للمشترك الوجدانى فى شكله الموسيقى والأدائى بين شعوب الشرق منطلقا من حضارة اليمن كمركز للتفاعلات والانتشار الحضارى .. فهل تجد ما يبرر تلك المركزية؟.
ربما تسعفنى هنا عبارة المفكر المصرى جمال حمدان حينما أشار إلى تميز الحضارات التليدة فى المنطقة ب (عبقرية المكان)، وإذا قرأنا الدور الطليعى لليمن فى التبادل التجارى بما فيه التبادل فى الأفكار الإبداعية بين الشرق و الغرب نجد أنها تمتعت بموقع مارست من خلاله ما أسميه ب (عولمة ما قبل العولمة) ممثلة فى اختراق حواجز الزمان و المكان، وهنا يشهد تاريخ الملاحة بأن عرب الجنوب فى عمان واليمن فطنوا الى نظام الرياح الموسمية، وبنوا عليها رحلات التبادل الحضارى من تجارة وأعراق وثقافات ولغات وأديان وسلوكيات، وبهذا الشكل تكونت مجموعات سكانية فى السواحل المتشاطئة بحيث تم الامتزاج البيولوجى والسوسيولوجى معا، وشهد التاريخ وجود دول جمعت فى نفوذها السياسى بين شواطئ الممر الغربى الشمالى للمحيط الهندي، بل وأتت أبحاث الجينوم مؤخرا لتقدم دليلا على تداخل عميق فى المنطقة، ونفت أى شكل من أشكال النقاء العرقى الموهوم. تأسيسا على ذلك نجد تمدد فنون الأداء اليمنى فى أرخبيل وحيدر أباد بالهند ثم فى قالب الصوت الكويتى والبحريني، وإسهاما يمنيا مشهودا فى فن (الطرب) فى زنجبار والمنطقة السواحلية، كذلك تتشارك اليمن فنون الساحل حيث تبرز رقصة الدربوكة فى حضرموت و تهامة مع فن الضمة والبمبوطية فى بورسعيد وفن السماكة فى سواكن وبورتسودان كفنون وظيفية و ترفيهية للبحر الأحمر وكمعادل موضوعى للمزاج الواحد الذى يقترب من (الأبيقورية) الإفريقية ومع تركيا العثمانية، وعبقرية التثاقف فى اليمن كمنت فى قدرتها على امتصاص الآخر وإعادة انتاجه فى سياق يمني، ولا ننسى أن اليمن مركزية على طريق التبادل التجارى البرى أيضا كقبلة فى إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، فلكأن الجغرافيا أهلتها لهذا الدور المشهود فى التجارة والثيمات الإبداعية معا..
تتحدث عن إفريقانية اليمن بمفهوم يسلم بالبصمة الإفريقية على اليمن أنثروبولوجيا وإبداعيا، فهل وجدته مدخلا يناسب رسالتك لتأكيد أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؟.
لم أعرف فى حياتى انتماء سياسيا، وأستأنس بالمعارف الثلاث : التجريبية والاجتماعية والإنسانية، فى البحث عن الحقيقة مهما كانت موجعة، وفى تأطير الصورة الأشمل و الأدق للتفاعل الإنسانى الذى ينادى بالتسامح والإنسانية والقفز على العرقية والمناطقية الضيقة، فالأصل فى الإنسان إن أقمنا للروحانية قيمة أن يكون «ماذا أنت» وليس «من أنت»، ولا بأس أن يستعين الباحثون بأدوات نقدية تنحى منحى تخصصا نستعيرها من علم موسيقى الشعوب، كما فعلت فى مجمل مؤلفاتى لأن الأصل فى المنطقة عند النخب هى النسبة الى المدينة العربية الإسلامية التى تطير شهرتها فى الآفاق من خلال احتضانها لجامع يصير جامعة وتعايشا لاقتصاد المعرفة مع اقتصاد التجارة و الانتاج و خدمات المهن و لم تكن حتى الأمس القريب النسبة الى القطر بما فيه من تجاوز للحدود الطبيعية لكون الحدود أمرا حديثا رسخته سايكس بيكو و بلفور، إن الطريق الذى اشتققته فى رحلة أسأل الله أن تلهم آخرين فتكون مسارا لا حدثا لا يخلو من المعاناة..
ماذا حاولت أن تقول عبر أفكارك ونشاطاتك ومشروعاتك العديدة بشأن علاقات شعوبنا العربية والأفريقية؟.
أردت أن أدعو إلى خلخلة معظم اليقين الزائف الذى نعيش فيه، وأن أؤكد أن العمل الإستراتيجى من أجل التواصل العربى الإفريقى يمكن أن يشكل ضمانة لاستقرار دولنا ومنطقتنا، لأنه إذا لم تتصالح الجماعات السكنية فى كل قطر، وتتخلى عن أفكار أكل عليها الدهر وشرب من موروثات الاستعمار والغزو الفكرى سيكون سلام واستقرار مجتمعاتنا فى خطر، ويجب أن يسبق ذلك بالطبع وجود إرادة سياسية...