ذكريات عيد قريتي 


مع كل عيد أتذكر أيام الطفولة وتجمّع الأطفال في قريتي،"الحراجيج" حيث الأصوات الصاخبة، أصوات الصغار، فرح العيد وقدومه، تعبيرات الصغار الملونة والعابهم المسلية الفرحانة.
أعتدت على قضاء العيد، أعاده الله عليكم جميعا بالخير والعافية، في قريتي بريف محافظة حجة جنوبا
كلما جاء العيد، لكن اختلفت السنين وتغيرت الأيام، وذهبت اليمن شمالا بعد أن حل بها الدجال وإرهابه . وتحتفظ قريتنا الواقعة في قلب تهامة من ريف حجة.
مع كل عيد أتذكرها وأسرد لنفسي تاريخ طفولتي التي أؤمن أنها لن تعود، ولو بكيتُ ملء الأرض دمعاً ،وملأتُ السماء حزناً ،،،، فالماضي رحل بكل تفاصيله ،ولم يبْقَ منه سوى الذكريات اليتيمة الأليمة ،،،،، لا زلتُ أتذكر طفولتي مع العيد بحلوها ومرّها ،،،،

أسترجع ذلك الماضي فأجد أبي ممسكاً ( المصباح ) يقلّبُ قريشاتٍ جمعها من كدّ العام كان يوزع لنا العشرينات والخمسين الريال... أما المائة الحمراء كانت جميلة جدا.... محظوظ من وصل إليها من ابي أو جدى.. من التي يخرجها من الحزام الاخضر "الكمر".
كان أبي الحمدلله ميسور الحال ،،،،، لا زال أبي يقلبُ تلك النقود ليعرف ماله وما عليه يوم الغد !! وهناك أمي في الغرفة المجاورة تحضّر ( الحناء ) ،،،، وأنا أنتظر ( الولاعة ) من أبي لأشعل النار في أكوام الرماد التي أعددتها ابتهاجاً بالعيد ،،،،، كانت أمي تجمع لنا من الرماد طوال الأسبوع لتلك الليلة  ،،،،، فنمزج الرماد بمادة الكيروسين ( القاز ) وتوزعُهُ على أطراف سطح المنزل على هيئة أكوام بحجم كفة اليد ،،،،، لا زلتُ أتذكر كيف كان السكان في قريتي يشعلونها في وقت واحد على أسطح المنازل ،،،، نوقد أكوام الرماد وأعيننا تتأمل أنوار بقية المنازل من حولنا وهنالك حيث القرى القريبة و المجاورة لنا ،،،، كنا نسميها ( التنصيرة ) وما أروعها عندما يبدأ السكان بإيقادها فتبدو متلألئةً كجواهر في ليلٍ حالك فلاتر مضيئة ،،،،، ينحسر حماسي بانحسار تلك المشاعل شيئاً فشيئاً حتى ينتهي الفصل الأول من المشهد الذي ستكتمل فرحته يوم غد العيد.

اما البعض فيستخدمون،   الحطب الذي يجمعونة  طوال الشهرين التي سبقت العيد و في جبل القرية يضعونها لتكون معلية،  وذات لهبة قوية وطويلة وتسمى  (شاربة) وذلك بعد اشعال النيران فيها.
عشرة أعوام تفصلنا وتفصل الكثير من اليمنيين شمالا عن قراهم ومنازلهم التي غادروها مكرهيين ، بعد فصول من السجون والتعذيب والإرهاب اما بعضهم مايزال حبيسا خلف أقبية الجدران المظلمة  بسبب الصراع المستمر والحرب التي أشعلتها مليشيا الحوثي الإرهابيو في وجه الدولة ومؤسساتها. 


اختفت الكثير من تلك العادات والتقاليد وتلاشت بسبب الأوضاع المعيشية التي فاقمتها الهجمات  والحرب والصراعات والعوز الذي حل بالديار اليمنية وأهلها وريفها الجميل. اختفى من أغلب قرى ريف اليمن.

أفتح عينيّ باكراً بعد فرحة قضيتها طويلة ليلا، وبجانبي ملابسي الجديدة وأنا أحلم واتخيل  كيف ألبس؟!  وكيف ستشاهدني عماتي كريمات  أبي وخالاتي التي يعاودهم ابي بعد الصلاة    ،،،، وذلك المذياع معلقاً على جدار منزلنا المتواضع المبطن بالطين وصوت الفنان المرحوم ( علي الآنسي ) يتسلل مداعباً مسمعي : ( اضحك على الأيام ،،،، وابرد من الأوهام ،،،،، وامرح مع الأنغام ،،،، وافرح بهذا العيد ،،،،، أنستنا يا عيد ) ،،،،،، رائحة ( خبز أمي ) والموفى  وجَدَت طريقها إلى غرفتي.

كان العيد مع أمي عيدين !! وعبر موجات الأثير من بعيد أسمع أصوات المفرقعات هنا وهناك ،،،، أنهض منتشياً باتجاه أمي لتعطيني الماء الساخن ،،،،، فتقول لي ضاحكة ،،،

في مركز المديرية يأتي عامة المواطنين واطفالهم بملابسهم الجميلة بسمات وجوههم وضحكات اطفالهم وكل يحمل سجادتة في يده إذ يحملها طفله الصغير الجميل، فتقام صلاة العيد مع شروق الشمس، ويتجمع أهل القرية كلهم للصلاة في تلك الساحة، ثم بعد ذلك يتفرقون جماعات وافرادا، ويذهب كلٌّ إلى ديار أقاربهم .

وكلي شوق إلى ( درزن الطماش ) استخدمة عند ذبح اضحيتنا  .. كانت تلك المفرقعات بمثابة الفرحة المختزلة لباقي اليوم من عيد الاضحى المبارك ،،،، أذهب إلى بيت أجدادي فألتقي في الطريق بقوافل من الأطفال والرجال والشباب ،،،،، و حيثما يممتُ نظري أجدُ كل شيء حولي سعيداً ،،،، وعندما أصل بيت أجدادي أجدها كخلية النحل العجيبة ،،،، فالرابط الأسري كان متيناً بين قلوبٍ لم تعرف السياسة، وتفاصيل الحاضر البغيض ،،،،، أتجوّل في تعاريج القرية مراتٍ عديدة ومع هذا لا أملّ من ذلك ،،،، كل شئ يتجدد ما بين الفينة والأخرى ،،،، سنين طويلة مضت حتى جاء التلفاز والرياضة والهاتف الذكي والسياسة ،وما إلى هنالك من أمور الحياة المعقّدة والبائسة ،،،، طفولة اليوم هي طفولة الأمس ،،،، لكن هناك من لوّث الحاضر في وجوهنا ووجوه أطفالنا ،،،، هناك خللٌ في واقعنا لم استطع فهمهُ رغم إمعان النظر فيه ،،،،، مررتُ حديثاً على ذات الديار التي كنت أمر عليها في طفولتي فأصابني الذهول !! فتلك الديار لم تعد كما كانت !! طرقات القرية لم تعد تعجّ بأولئك الذين حيثما يممتُ نظري أجدهم !! هناك قطيعة رحم بلا مبررات ،،،، وهناك طفولة لم تجد من يلتفت إليها بحجة مشاغل الحياة ،،،،،، وعندما أفتش عن مشاغل الحياة أجدها تتمحور حول هاتفٍ لعين أو شاشة تلفاز قذرة سلبت الناس عقولهم ،،،، لم تكن السياسة حاضرة في أعيادنا ومجالسنا كما هي حاضرةٌ اليوم 
اليوم لستُ حزيناً على الماضي بقدر حزني على هذا الواقع المرير ،،،، حيث استُبدلَت صواريخ الطفولة بصواريخ الموت !! واستُبدِلت المفرقعات بالقذائف !! واستُبدِلَ جمال العيد بقُبح الحرب !!

أُسدِلُ ستار الماضي وفي قلبي من الحزن ما يفت الصخر ،،،، وفي جوارحي من الحنين إليه كحنيني لأمي و قهوة أمي و موقد أمي و عينيّ أمي ورائحة امي وجدتي ،،،،، توقفوا مثلي واسترجعوا طفولتكم عشية العيد التي لن تعود ولو أنفقتم ملء الأرض ذهباً لعودتها ! وحدها الذكريات تبقى يتيمة في عقولنا وقلوبنا عبر السنين !! والسلامٌ على ذلك الزمن الجميل•