مازلت طفلا مهووسا بالقراءة والشقاوة حتى اليوم ياولدي!
وأنا في المرحلة الأساسية من التعليم، كنت طفلا شقيا متمردا رافضا للدراسة والمراجعة بشكل قاطع، وفي نفس الوقت مهووسا بقراءة كتب العشق والأدب والقصص والروايات البوليسية وسماع البرامج الاذاعية حد الهوس فعليا وبشكل يومي،خلافا لكل اخواني وزملائي وأصدقائي، مما اضطر والدي رحمة الله تغشاه الى أن يجمع كل هذه الكتب من بين رفوف مكتبته وأولها ألف ليلة وليلة وطوق الحمامة وعنترة وسيف بن ذي يزن وجميل بثينة وكثير عزة وغيرها الكثير من الكتب التي لم تعد تسفعني ذاكرتي لتذكر أسمائها، وعزلها في شنطة حديدية محكمة الأقفال حتى لا تطالها يدي
وهو الأمر الذي زاد فضولي واصراري أكثر على قراءتها جميعا بدلا من المذاكرة والإهتمام بدراستي التي كنت متفوقا فيها بالفطرة والسماع والفهم التلقائي من المعلمين وخاصة السودانيين والعراقيين والمصريين وصولا للاردنيين والصومال ممن كانت حركة الاخوان المسلمين تجمعهم تنظيميا إلى اليمن تحت لافتة التعليم وعبر هيئتها العامة للمعاهد العلمية التي كانت بمثابة منافس لوزارة التربية والتعليم حينها حتى تم دمجها مع الوزارة في ٢٠٠١ وكنت حينها قد اكملت الفصل الأول من السنة الثانوية الأخيرة بمنهج المعاهد العلمية وكان لزاما علينا إكمال الفصل الثاني تربية وتعليم والانتقال لمركز مدرسة العزلة الثانوي بجحاف حيث كانت النظرات المؤتمرية الاشتراكية التقزيمية لنا كطلاب معاهد، ترمقنا من كل من في المرسة بداية بمديريها الحويج ومرورا بالطلاب المتحوفين من تفوقنا عليهم بحسن خطنا وأخذ الدرجات الأعلى على حساب المركز وبالتالي ضياع فرص المنح الدراسية الخارجية عليهم،وصولا إلى المراقبين ولجنة الاختبارات المرسلة إلى المركز الامتحاني والتي عاملتنا بقسوة ورقابة شديدة لتدمير معنوياتنا وكأننا قادمين من كهوف تورو بورو. ولكن جاءت النتيجة بالأخير لصالحنا وعكس ماكانو يحيكون ويريدون لنا.
والمهم أنني استمريت على هواياتي وهوسي بالقراءة وسماع الإذاعة حتى بعد إكمال الثانونية ورفض كل أشكال القمع الاسري في تحديد هوية دراستي الجامعية واصريت على دراسة الصحافة والاعلام دون أي خيار آخر في استمارة الطلب إلى كلية الآداب بجامعة عدن وتم القبول والدراسة والحمد لله..
ودارت الايام ونزل والدي إلى عدن لغرض علاج عينيه قبل عامين تقريبا وكانت فرصتي الأكبر للجلوس معه والتحدث إليه وطرح الكثير من الاسئلة التي تخنقني منذ الطفولة ومنها متى فقد أسنانه كونه الوحيد كن أولاده الستة فقد أسنانه على طريقته
واخبرني رحمة الله عليه أنه فقدها بشكل كامل وهو في الأربعين من العمر وبعد ان تفتت وتقلعت من ذاتها مع تعاطيه القات وأثناء الأكل تماما كما يحصل معي.. وسألته عن قضايا خلافية تاريخية وفقهية ووجدته مختفظا بكامل ذاكرته ويسرد الأحداث مع المرجع وخلافات أهم الفقهاء حول الأمر، وادركت حينها ام والدي رحمة الله عليه كان علامة في الدين بكل ماتعنيه الكلمة وآن الكتب جعلت منه رجلا حكيما لا يخطئ التقدير
وقبل أن يذهب للنوم سألته ذات مساء عن سبب منعه لي كن قراءة كتب العشاق والروايات، فضحك من أعماق قلبه وعاد إلى مكانه حتى يتسنى له أن يرد بعمق، كونه يعرف شقاوة ولده واستحالة اقناعه بكلام عابر وغير مقنع
وقال: تلك الكتب ياولدي ادمان خيالي مدمر لطفل بعمرك يومها ومضيعة لوقتك كطالب ،ثم ان قراءتها ستكون على حساب دراستك وأنا كنت أرى فيك مو العلم مالم أراه في بقية اخوانك حفظهم الله، واحمد الله أن ظني فيك ماخاب رغم كل الصعوبات التي واجهتها بكفاح وجعلتك اليوم صحفيا يحترمه ويعرفه الكثير وارفع راسي وأفتخر فيه.
فضحكت من قلبي وشعرت براحة لم أشعرها في حضرة مخلوق قط طيلة حياتي وأنا اسمع لوالدي وهو يشير لاول مرة وبتحدث في جهي بافتخار عني انا الولد الشقي المتمرد، ورغم اعترافه قبلها بيومين أنه يحب أخي يوسف الأصغر مني أكثر من كل أولاده كونه يرحمه ويقدر كرمه وطيبة نفسه وتعلقه به منذ ولادته اكثر منا جميعا أولاده رغم قلة دخله وبساطة حياته.
والمهم كنت حريص على سؤاله أيضا عن مصير نسخة قديمة أصلية متكاملة من كتاب ألف ليلة وليلة ولماذا كان يحرص حتى على منعي من الاقتراب منه وهو يقرأه ويوصي أمي بمراقبتي ومنعي حتى كن الإمساك به،بينما كنت ازدار فضولا يوما بعد يوم لقراءته بأي طريقة كآنت ولو بدفع رشاوي واسترضاء لأمي كي تسمح لي بالقراءة كلما غاب أبي عن البيت.. وهكذا تمكنت بالفعل من قراءته كاملا خلسة وأنا مازلت في صف تاسع اساسي واعجبت كثيرا بخيالاته، بل وتأثرت ببساطه الأسلوب الروائي لكاتبه وتمنيت لو احصل على ذات الكتاب المجلد الذي قرأت منه الرواية أول مرة ولا ادري لمن أهداه والدي هربا من تعلقي به ودون أن يعرف حتى آخر عامين من حياته أنني قد أكملت قراءته دون علمه وان منعه عني كان بمثابة أكبردعاية لدفعي نحو قراءته بكل الطرق..وحينها ضحك والدي وقال لي: لقد حرصت على أبعادك عن هذا الكتاب أكثر من غيره لكونه عباره روايات خيالية خرافية مازلنا تعيش حتى اليوم سخافات شبيهة بها ولا أريدك ان تقرأها وتتاثر بها وانت طفل مراهق كونها ستؤثر فيك وافكارك سلبا بهذه المرحلة الحساسة من عمرك، ناهيك عن كونها خرافة مروية بطريقة سردية شيقة تدفع من يقرأ أول صفحة منها لقراءة الثانية وحتى الفصل ومن ثم اكمال مابعده من فصول كثيرة، وبالتالي تخسر وقتك وسلامة أفكارك كما خسر العرب مستقبلهم وحاضرهم اليوم لصالح ماضي تاريخهم المندثر وتمسكا منهم بمثل هذا الخيالات النرجسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
مازال داخلي طفل مهووس بالقراءة حتى اليوم ياوالدي!
#ماجد_الداعري