البريهي وعلوان وكلية الإعلام


قبل أكثر من عشرة أعوام، في جامعة صنعاء وبالضبط في كلية الإعلام، كنت أقف أمام مبنى الكلية في حفل استقبال الطلاب الجدد. اقترب مني عدد من الطلاب المنظمين للحفل وقالوا أن عليَّ اولا الذهاب للحفل بعدما اخبرتهم أنني طالب جديد في الكلية وأريد أن أعرف كيف أحصل على جدول المحاضرات ؟
لم أكن في الحقيقة مهتمًا بالاحتفالات الخطابية، التي غالبًا ما تكون مملة ، ولم احضر حتى حفل تخرجي من الكلية وجدت ذلك نوع من البذخ المبالغ خاصة في ظل الأوضاع السياسية المتدهورة التي بدأت فصولها في البلاد في العامين 2014 و2015، والتي تزامنت مع فترة تخرج دفعتنا.
وأنا أحاول التواري بعيدًا، ناداني بصوتٍ عالٍ أحد الطلاب المنظمين للحفل- للأسف لا أتذكر اسمه قال :"تعال معي، في كلمة بتكون حلوه للدكتور علي البريهي في الفعالية، وبعدها ضروري تحضر معي محاضرة الدكتورة بلقيس علوان في قاعة أخرى بعد انتهاء الحفل عشان تأخذ فكرة عن الكلية التي بتدرس فيها وتتعرف على الدكاترة وعلينا ، يا مستــجد وتلاها بضحكة عريضه مع باقي زملائه"
لم يعجبني أسلوبه في التحدث بلغة الاستاذية تلك، لأنني كنت ايضا أواجه صراعًا دائمًا مع محيطي القريب بسبب هذه الطريقة, لكن للامانة خجلت وقتها من التعبير عن تهكمي الداخلي, خاصة وان الغرض من عرضه كان مساعدتي في اول طريق لي في الكلية, او ربما كان يريد فقط حشد طلاب في فعالية الاتحاد انذاك. ماعلينا. المهم في ذلك الوقت، لم أكن أعلم ما الذي سأدرسه وماهي التحديات التي قد تواجهني أثناء الدراسة في هذه الكلية وغيرها من أسئلة المستقبل التي تشغل تفكير أي طالب في اول ايامه الجامعية، مع ذلك كنت في نفس الوقت متحمسًا جدًا للبدء خاصة في هذه الكلية التي قررت الدراسة فيها بعد تفكير ليس طويلًا وعدم استشارة احد.

ذهبت مع الطالب الغير مستجد, الذي كنت ربما أبدو في مخيلته كطفل ما زال في الصف الرابع ، إلى قاعة الوريث، التي سمعت انه تم تغيير اسمها مؤخرًا كباقي معالم صنعاء بعد العام 2014 . وصلنا إلى القاعة، ولمن لا يعرفها  لقد كانت عبارة عن هنجر يحوي مقاعد خشبية، وكان كل مقعد يحوي لوح خشبي قابل للثني ويصبح طاولة للكتابة، كان هذا نمط وشكل المقاعد في اغلب قاعات كليات جامعة صنعاء تقريبا , كان هناك ايضا عدد لا بأس به من هذه المقاعد تالفه ,الجيدة منها كانت عادة بدون لوح خشبي للكتابة.
جلست في منتصف القاعة على إحدى المقاعد التي كانت سليمة إلى حد ما، ولم أكن أعرف من هو الدكتور علي البريهي أو الدكتورة بلقيس علوان. كانت أسماءهم تتردد كثيرًا من قبل بعض الطلاب عندما كنت أذهب لاستكمال إجراءات التسجيل في الكلية. لكن بعد بدء دراستي  لديهما، أدركت تمامًا لماذا كانا يحظيان بحب كبير في اوساط الطلاب. إنهما أكاديميان استثنائيان ومحاضران يتمتعان بأسالوبهم المميز والأنيق في الشرح وإيصال المعرفة.

الغيت بعد ذلك فكرة عودتي للمنزل وزاد فضولي اكثر لسماع كلمة الدكتور البريهي في ذلك الحفل، 
بقيت في القاعة حتى نهاية كلمة الدكتور البريهي, ثم خرجت مع نفس الطالب إلى محاضرة الدكتورة بلقيس في قاعة أخرى - لا أتذكر اسم القاعة . جلست في آخر مقعد وكنت أخشى أن تكتشف الدكتورة أنني لست من طلاب ذلك المستوى وتطردني ، لكنها لم تفعل ذلك. ويبدو انها كانت سعيدة بان هناك طلاب جدد يريدون ربما بحماس زائد مسابقة الزمن والاستماع لمحاضرة  ليس وقتها، لقد كان بالنسبة لي يومًا مميزًا للغاية.
 
أهم فكرتين خرجت منهما في ذلك اليوم تلخصتا في التالي:
الدكتور علي البريهي في كلمته: "يا أبنائي، لا يوجد إعلام محايد، هناك إعلام موضوعي، والموضوعية في أحد أشكالها هي الانحياز للحقيقة.

الدكتورة بلقيس: "كطلاب كلية الإعلام، اعملوا على توسيع معرفتكم، فالأساس النظري مهم ومقدمة للمسار العملي، لا تنحصروا فقط بالمنهج، اقرأوا كثيرًا ,كصحفيين وعاملين في المجال التلفزيوني أو غيره أنتم تدرسون في الحقيقة كل شيء وليس ملازم أو مواد محددة، أو بما معنى ذلك، إذا لم تخونني الذاكرة.

لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت خارطة طريق، الغرض منها رفع مستوى وعي الطلاب وتغيير نمط التدريس المستهلك ، لم يثنيهما افتقار الكلية لأبسط مقومات التدريب الصحفي والإعلامي مثل الاستديوهات والكاميرات والإضاءة وغيرها، فقد كانا يغطيان ذلك الفراغ العملي بتمهيد الطريق للمعرفة والبحث وتنمية التفكير النقدي للطلاب والحث على التدريب لدى وسائل الإعلام المتعددة في البلاد.
كانت كلماتهم في المحاضرات تجمع بين العمق، الحكمة، وسلاسة الطرح، في محيط سياسي كان وما يزال محتقن ويحمل الناس فيه للتعصب والانحيازات المسبقة. غير أن الدكتورة علوان والدكتور البريهي أظهروا الطريق نحو الموضوعية وبناء جيل من المحترفين الذين يعمل معظمهم اليوم لدى مختلف وسائل الإعلام المحلية العربية والدولية.

كل التقدير والحب.