البحر الأحمر واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2025: الدور التهامي كركيزة محلية للأمن الإقليمي والدولي...
يشهد البحر الأحمر لحظة مفصلية في تاريخ أمنه الاستراتيجي، حيث عاد إلى صدارة الاهتمام الدولي باعتباره ممرًا حيويًا للتجارة والطاقة العالمية (تشير التوقعات إلى أن دوره سيتعاظم مع مرور الزمن)، ونقطة تماس حساسة بين الاستقرار الإقليمي والمصالح الدولية الكبرى. وقد شاهد العالم كله الضريبة الباهظة التي تكبدها الاقتصاد العالمي عندما استهدفت مليشيا الحوثي ومن ورائها إيران أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وإدراكا لهذه الأهمية والمخاطر، أكدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 هذا التحول، عندما صنّفت ضمان حرية الملاحة وحماية خطوط التجارة في البحر الأحمر باعتباره أحد أركان حماية النظام الدولي، وشددت على ضرورة منع القوى المعادية من تهديد هذا الممر أو تحويله إلى أداة ضغط جيوسياسي. أما الجديد في هذه الاستراتيجية، فهو الاعتراف المتزايد بدور الشركاء المحليين في مناطق النزاع، واعتبارهم عنصرًا أساسيًا في تحقيق الاستدامة الأمنية وتقليل الاعتماد على العمليات العسكرية المباشرة، وهو تحول يعكس إدراكًا متناميًا بأن الأمن لا يمكن استيراده من الخارج ما لم يُبنَ على قاعدة محلية راسخة.
وفي هذا الصدد، يكتسب الدور التهامي أهمية خاصة باعتباره الركيزة المحلية الأكثر التصاقًا بأمن البحر الأحمر، نظرًا لموقع تهامة الممتد من ميدي شمالًا حتى باب المندب جنوبًا، ولارتباط أبنائها التاريخي والعملي بالساحل والجزر والموانئ، ما يجعلهم العنصر الأكثر قدرة وموثوقية في حماية هذا الممر الحيوي. فأبناء تهامة هم السكان الأصليون لهذا الساحل منذ آلاف السنين، وشهد التاريخ لهم بأنهم حراس طبيعيون للسواحل والجزر والموانئ، وأن وجودهم كان دومًا مرتبطًا بثقافة السلام والتجارة والانفتاح. ولم يُعرف عن تهامة عبر التاريخ أنها كانت مصدر تهديد للملاحة، بل كانت بوابة آمنة للبحارة والتجار والمسافرين، وهو إرث يتقاطع بعمق مع الحاجة الدولية اليوم إلى ضمان أمن هذا الممر الحيوي.
فما ورد في الاستراتيجية الأمريكية من تأكيد على أهمية تأمين البحر الأحمر عبر شراكات (متعددة المستويات) ينسجم تمامًا مع الرؤية التي يحملها أبناء تهامة تجاه أمن منطقتهم. فالتهاميون ينظرون إلى أمن البحر الأحمر باعتباره ليس قضية وجودية لهم فحسب، بل هما مشتركا إقليمياً ودوليًا، ويؤمنون بأن حماية السواحل، مكافحة الإرهاب والتهريب، ومنع تسلل الجماعات المسلحة، وحماية الجزر والموانئ، هي مسؤولية مشتركة تتطلب تعاونًا بين المجتمع المحلي والدولة ودول الإقليم والمجتمع الدولي.
ولطالما أبدت القيادات التهامية السياسية والعسكرية والأمنية استعدادها الكامل للعمل جنبًا إلى جنب مع جميع الشركاء، من الدول الإقليمية إلى المؤسسات الدولية والهيئات البحرية متعددة الجنسيات، وصولًا إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في إطار شراكة تقوم على الثقة المتبادلة والاحترام والتكافؤ، بما يعزز الجهود المشتركة لضمان الأمن والاستقرار في البحر الأحمر. ويرى التهاميون أن انخراطهم في هذه المنظومة ينسجم مع دورهم التاريخي على الساحل، ويوفر لهم ما يلزم من دعم يمكّنهم من أداء دورهم الحقيقي كشريك محلي أصيل يسهم في استقرار البحر الأحمر وتنمية مجتمعاته الساحلية.
والميزة الجوهرية التي يقدمها أبناء تهامة هي أنهم يعرفون البحر الأحمر كما يعرفون بيوتهم. وجودهم الدائم، ومعرفتهم الدقيقة بالجغرافيا، ومسارات التهريب، ونقاط الضعف، والديناميكيات الاجتماعية الممتدة على طول الساحل، تجعلهم الطرف الأكثر قدرة على تنفيذ ترتيبات أمنية فعالة ومستدامة. ولعل ما تحتاجه المنطقة ليس مزيدًا من القوات الأجنبية بقدر ما تحتاج تمكين القوى المحلية الصادقة، التي تحمل مصلحة مباشرة في استقرار البحر الأحمر، وتمتلك الشرعية الأرضية والتاريخية للقيام بهذا الدور.
ويعتبر دمج أبناء تهامة في ترتيبات الأمن البحري ليس مطلبًا محليًا فحسب، بل يتوافق مع المبادئ الجديدة للاستراتيجية الأمريكية التي تدعو إلى الاعتماد على الشركاء المحليين وتجنب الفراغ الأمني الذي يسمح للقوى المعادية بالتمدد. فحين يكون الشريك المحلي قادرًا ومؤمنًا بدوره، يصبح من الممكن تحقيق الأمن بتكلفة أقل، وفعالية أكبر، واستدامة أطول. وهذا ما يجعل من اعتماد التهاميين في حماية السواحل ركيزة استراتيجية، وليس مجرد خيار تكتيكي.
فتمكين أبناء تهامة من أداء دورهم الطبيعي سيؤدي إلى بناء منظومة ردع محلية ضد الإرهاب والتهريب والاعتداءات البحرية، ويخلق خط دفاع أول يحمي المصالح الإقليمية والدولية في البحر الأحمر. كما أنه سيسهم في تعزيز الاستقرار الداخلي لليمن، إذ يوفر إطارًا عادلًا وفعّالًا لإشراك المجتمعات الساحلية في إدارة مواردها وحماية محيطها. ومن شأن ذلك أن يفتح الباب أمام مشاريع تنموية وبنية تحتية قادرة على تحويل الساحل الغربي لليمن إلى شريك اقتصادي وأمني محوري، بدل أن يبقى ساحة صراع أو نقطة هشاشة.
اليوم، ومع إعادة صياغة موازين القوة في البحر الأحمر، فإن تجاهل الدور التهامي سيكون خطأً استراتيجيًا، وليس فقط بحق أبناء المنطقة، بل بحق الأمن العالمي ذاته. أما إدماجهم ودعمهم وتمكينهم، فهو استثمار مباشر في استقرار واحدة من أكثر المناطق حساسة في العالم، وامتثال عملي لما دعت إليه استراتيجية الأمن القومي الأمريكية: بناء أمن مستدام، قائم على الشراكة، ويحترم خصوصيات المجتمعات المحلية.
فأبناء تهامة لا يطلبون إلا ما يتوافق مع المنطق الاستراتيجي نفسه: أن يكونوا شريكًا محليًا موثوقًا، فاعلًا، ومكافئًا، في حماية البحر الأحمر الذي عاشوا على ضفافه منذ آلاف السنين. وبالتعاون مع المجتمع الإقليمي والدولي، يمكن أن تتحول تهامة إلى حجر الزاوية في أمن هذا الممر الحيوي، بما يضمن الاستقرار وحرية التجارة الدولية، ويحقق للأجيال القادمة حقها في الأمن والسلام والتنمية المستدامة....



