اليَمنُ جُزءٌ مِن أفْريقيا: في جدليّة التكوينِ والانفصالِ الجُغرافيّ

إِنّ الخَريطةَ العالميّة التي نعرفها اليوم بحدودها القارية الصارمة ليست سوى نتاج منظورٍ غربي استعماري تبلور بقوة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين. فقد اعتمد هذا الترسيم على اعتبارات سياسية واستكشافية كولونيالية أكثر من اعتماده على الحقائق التكوينية للأرض، ممّا أدّى إلى خلق فواصل جغرافية مصطنعة بين كياناتٍ تجمعها وحدة عميقة في الجذور. ومن أبرز ضحايا هذا التقسيم الاعتباطي الفصل بين آسيا وأفريقيا عند البحر الأحمر، وهو فصل جعل اليمن بعمقه التاريخي والجيولوجي يبدو وكأنه كيانٌ “مستعار” خارج سياقه الطبيعي.

جِيْولوجياً، ما تزالُ الأرض تحمل الشهادة الأوضح على وحدة اليمن بالقارة الأفريقية. فالجزيرة العربية بأكملها، بما فيها اليمن، هي امتداد للصفحة التكتونية الأفريقية التي انشطرت تدريجياً، مُخلّفة الصدع العظيم الذي أصبح لاحقاً البحر الأحمر. ورغم مرور ملايين السنين على هذا الانفصال، فإن الأصل البنيوي المشترك لم يُمحَ؛ بل يثبت أنَّ اليمن ليس مجرد جار قريب من أفريقيا، بل هو جزء أصيل من بنيتها التكوينية. إن التقسيمات التي وضعتِ اليمن ضمن (قارة) مختلفة ليست إلا حدوداً سياسية طارئة على خريطة أعمق وأصدق رسمتها الطبيعة.

وَعلى امتداد هذه الوحدة الجيولوجية، تظهر الروابط الأنثروبولوجية والثقافية كامتدادٍ حيّ لهذه الحقيقة. فالتاريخ القديم لم يعترف يوماً بحواجز البحر الأحمر؛ إذ شهدت ضفتاه تكوّن فضاء حضاري واحد مُتداخل، جسّدته أسطورة ملكة سبأ/الحبشة وتجلّت ذروته في دولة أكسوم/ حمير التي بسطت نفوذها عبر المضيق لتشمل مرتفعات اليمن والحبشة زمناً طويلاً، مما حوّل البحر الأحمر إلى جسر حضاري، لا حاجز يفصل الشعوب. وتأتي نقوش خط المسند المشتركة لتقدّم دليلاً لغوياً قاطعاً على هذا الامتزاج المبكر، مؤكدة أنّ اللسان والثقافة نشآ على ضفّتين لكن بروحٍ واحدة.

ولا يقلّ البعد الأسطوري أهمية في هذا السياق، إذ تشير رواية الملك التبّعي أفريقيش بن قيس الذي تُنسب إليه تسمية أفريقيا (وهو الاسم القديم لتونس أيضا) في بعض المرويات إلى مدى حضور اليمنيين وتفاعلهم مع المجال الأفريقي القديم، سياسياً ورمزياً. وإلى جانب ذلك، تكشف الأدلة الجينية الحديثة عن تداخل عميق في البنية البيولوجية بين سكان جنوب الجزيرة العربية وشعوب القرن الأفريقي، بما يعزّز أن الحاجز المائي لم يفلح في فصل التاريخ الوراثي المشترك.

كما تُظهر المؤشرات الإثنوغرافية ملامح هذا القرب الثقافي حتى في تفاصيل الحياة اليومية؛ فالتشابه اللافت في صناعة الخبز مثل اللحوح، وفي استخدام مشتقات الألبان، وفي الأنماط السائدة للأزياء والطقوس والرقصات على ساحل تهامة وفي إثيوبيا وإريتريا، ما هو إلا امتداد لذاكرة عابرة للبحر. فالمآزر البيضاء، والإيقاعات الشعبية، ونُظم الحِكم الشفهية، كلها تشهد على أن ضفتي البحر الأحمر تتشاركان جذراً واحداً لا يزال نابضا.ً

ولا يتوقف الأمر عند المظاهر، بل يمتد إلى عمق الذاكرة الجمعية. فالدراسات الأنثروبولوجية المقارنة تكشف عن وحدة المخزون السردي والأسطوري بين الجانبين؛ فأسطورة الخضر في صورتها الشعبية، على سبيل المثال، هي جزء أصيل من مرويات قبائل الدنكل - كما حدثني الصديق علي الدنكلي من جيبوتي، كما هي تماما حاضرة في الوجدان اليمني. وكذلك شخصية الجنية بُدى في الذاكرة الحبشية واليمنية، والتي تعكس تشابهاً جوهرياً في بنية الخيال الشعبي بين المجتمعين. إن هذا الاشتراك الأسطوري ليس مجرد صدفة، بل هو دليل على وحدةٍ ذهنية وثقافية تشكلت قبل رسم الحدود الحديثة بقرون طويلة

إن إعادة النظر في موقع اليمن لا تقتصر على سرد تاريخي أو تحليل جيولوجي، بل هي دعوة إلى تجاوز المفاهيم القارية المفروضة، والنظر إلى اليمن ضمن فضائه الطبيعي الأوسع: فضاء القرن الأفريقي. فاليمن ليس مجرد دولة عربية عند طرف اليابسة، بل هو جزء لا يتجزأ من المنظومة الأفريقية التي احتضنته تكويناً ورافدته حضارةً وتفاعلاً بشرياً. وما تزال بصماتها واضحة في ملامح أهله، وعاداتهم، وأغانيهم، وطرائق عيشهم.

إنها دعوة لإعادة قراءة الخريطة، لا بعيون المستعمر القديم الذي صنع الحدود، بل بعيون العلم وعمق التاريخ، لنستعيد حقيقةٍ ظلّت كامنة خلف الجغرافيا السياسية.

اليمن والجزيرة العربية… توأم أفريقيا الذي لم يفصله إلا خطّ على

 ورق.

مجيب الرحمن الوصابي