تهامة اليوم هي صوت اليمن الذي لم ينكسر، وهي الجبهة التي تواجه المشروعين معا دون مساومة....
عبدالمجيد زبح ..
يقاتل اليمنيون اليوم من أجل استعادة كرامتهم المهدورة ومن أجل أن يحكم الإنسان نفسه بنفسه دون وصاية أو استعباد سياسي أو ديني، فالمعركة التي يخوضها الشعب ليست مجرد صراع على السلطة بل معركة وجود وكرامة، لأن الكرامة الحقيقية لا تعني أن يمنحك الحاكم طريقا أو شنطة مدرسية، بل أن تكون حرا في اختيار من يحكمك وأن تعيش في ظل عدالة ومواطنة متساوية.
القضية اليمنية ليست في عمر المشاريع ولا في شعاراتها، فمشروع صعدة الذي يرفع راية الولاية ومشروع سنحان الذي حكم البلاد باسم الجمهورية لعقود طويلة كلاهما وجهان لعملة واحدة، كلا المشروعين صادر إرادة اليمنيين واستأثر بالسلطة والثروة واعتبر البلاد مزرعة شخصية أو إرثا عائليا، وبينما كانت الشعارات تختلف بقيت النتيجة واحدة وطن ممزق وعدالة غائبة وإنسان مقهور. فقد قاتل الأحرار اليمنيون هذين المشروعين معا عندما انقلبا على الشرعية في صنعاء عام 2014، وها هم اليوم أبناء تهامة يواصلون النضال ذاته دون تبدل في الموقف أو الهدف، فتهامة اليوم ليست في معركة مصالح ضيقة أو حسابات مناطقية بل في معركة مصير وكرامة، يقاتل أبناؤها على جبهتين في آن واحد، جبهة داخلية ضد مشروع الحوثي الذي يسعى لتغيير هوية المنطقة ديمغرافيا وثقافيا، وجبهة أخرى ضد مشروع طارق صالح الذي يحاول إعادة إنتاج نفس منظومة الحكم العائلي القديمة ولكن بغطاء جديد وشعار مختلف.
ففي الوقت الذي يرفع فيه أبناء تهامة راية المقاومة الشعبية دفاعا عن أرضهم وهويتهم نجد طارق صالح يتحرك تحت راية الجمهورية ليؤسس مشروعه الخاص مستغلا تضحيات الآخرين ومقدرات المناطق المحررة وكأنه الوريث الشرعي لدماء اليمنيين، انتقل من صفوف الحوثي إلى صفوف الشرعية لا من أجل الوطن بل من أجل إعادة التموضع في معركة السيطرة والنفوذ، واليوم يحاول أن يصور نفسه القائد الوطني بينما يمارس على الأرض نفس سياسات الإقصاء والاستحواذ التي مارسها النظام السابق. يحاول طارق تفكيك الألوية التهامية وضمها قسرا إلى مشروعه في تجاهل صارخ لتاريخ المقاومة التهامية التي كانت من أوائل من واجهوا الحوثي على الساحل التهامي، يريد أن يظهر بمظهر المنقذ بينما هدفه الحقيقي هو السيطرة وإلغاء أي صوت مستقل في تهامة يمكن أن يعبر عن إرادة أهلها، يتعامل مع أبناء تهامة وكأنهم قاصرون يحتاجون وصايته وتوجيهه تماما كما كان يفعل الحوثي في الشمال حين زعم أنه يهدي الناس طريق الله.
والمؤسف أن النخب السياسية والثقافية التي تصرخ اليوم ضد الحوثي تقف صامتة أمام ما يجري في تهامة، تتفرج وكأن القضية لا تعنيها، مع أن ما يواجهه أبناء تهامة هو امتداد لنفس معركة اليمنيين ضد الاستبداد والوصاية. فكيف لمن يرفع شعار استعادة الدولة أن يصمت على تفكيك المقاومة التهامية؟ وكيف لمن يتحدث عن الجمهورية أن يقبل باستنساخ الوصاية بطريقة جديدة؟ إذا كانت مشكلتنا اليوم تختزل في الخدمات فليقل لنا هؤلاء لماذا نقاتل إذن؟ إذا كان الطريق المعبد والشنطة المدرسية هما معيار الوطنية فليأت الحوثي وليحكم ويوزع الشنط ويبني الطرق وليأخذ البلاد كما يشاء، لكننا لم نقاتل الحوثي لأنه لم يبن طريقا بل لأن مشروعه يصادر حقنا في أن نحكم أنفسنا ويفرض علينا سلطة إلهية باسم الله وجبريل، كما لم نرفض نظام عفاش لأن الكهرباء كانت مقطوعة بل لأن الكرامة كانت منهوبة.
فكيف يصبح انقلاب الحوثي على الدولة جريمة بينما سيطرة طارق صالح على إيرادات المناطق المحررة عملا وطنيا؟ كيف يصبح نهب صنعاء خيانة ونهب المخا والساحل التهامي إدارة حكيمة؟ وكيف يصبح التسلط في صعدة استبدادا والتسلط في تهامة شرعية ميدانية؟ هذه الازدواجية في المعايير أفرغت المعركة الوطنية من معناها وحولتها إلى صراع مصالح ونفوذ لا علاقة له بالكرامة أو السيادة.
فالكرامة ليست شعارا سياسيا ولا رفاهية فكرية بل هي جوهر المواطنة، الكرامة تعني أن لا يفرض عليك حاكم باسم السلالة أو باسم الثورة أو باسم النصر، الكرامة أن لا يختزل وطنك في مشروع عائلي أو جهوي وأن لا يختصر ولاؤك في خيمة قائد أو شعار فصيل، فالوطن لا يختصر في طريق ولا في خدمة بل في عدالة وكرامة وحق متكافئ لكل أبنائه. فمن يقبل بوصاية طارق اليوم لا يختلف عمن قبل بوصاية الحوثي بالأمس، كلاهما يسلب الإنسان حريته باسم شعار مختلف.
وعليه فإن وقوف الأحرار اليمنيين مع أبناء تهامة ليس منة ولا تضامنا مشروطا بل واجب وطني وأخلاقي لأن تهامة اليوم لا تقاتل من أجل نفسها فحسب بل تقاتل بالنيابة عن كل اليمنيين من أجل مبدأ أن لا يملك أحد الحق في الحكم بالقوة أو بالسلالة أو باسم الدين أو باسم الجمهورية. لقد آن للنخب المثقفة أن تراجع موقفها لأن صمتها لم يعد حيادا بل تواطؤا يشرعن الباطل، فالتاريخ لن يرحم من صمت اليوم كما لم يرحم من صفق بالأمس، وتهامة اليوم تعيد تعريف معنى الكرامة وتذكر الجميع أن الحرية لا تمنح بل تنتزع وأن من يساوم على كرامته يفقد حقه في الحديث عن الوطن.
الوطن ليس طريقا ولا شنطة بل هو الإنسان الحر القادر على أن يختار من يحكمه وأن يعيش في ظل عدالة ومساواة، ومن لا يفهم هذه المعادلة سيظل يبدل الطغاة ولا يبدل واقعه. وتهامة اليوم هي صوت اليمن الذي لم ينكسر، وهي الجبهة التي تواجه المشروعين معا دون مساومة، وهي البوصلة التي تذكر الجميع بأن الكرامة ليست شعارا في الميدان بل مبدأ في الوجدان، وأن من يقف متفرجا اليوم سيجد نفسه غدا بلا وطن ولا كرامة.



