احـذروا الانجـرار وراء شـائعات العـصر الرقـمي


     فـي زمـنٍ أصبحت فيه الكلمة أسرع من الضوء، والمعلومة تُنْشَر قبل أن تُفكَّر، باتت الشائعات سلاحًا خفيًّا يُستخدم ببراعة لتوجيه الرأي العام، وتشويه الحقائق، وتزييف الوعي الجمعي. 

     ومـا يزيـد خطورة هذا السلاح أنه لا يُطلَق من فوهة بندقية، بل من شاشة هاتفٍ صغير نحمله في جيوبنا، ونتعامل معه من دون حذرٍ كافٍ؛ فَنُسْهِمُ دون قصد في إشعال نيران الفتنة التي يصعب إطفاؤها بعد ذلك.

     لـقد أصبحت البرامج المعاصرة ووسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها ساحاتٍ مفتوحة لكل من أراد أن يقول أو يُشوّه أو يُضلّل.
     وللأسـف، لم يَعُد الناس يُميّزون بين الخبر والتحليل، ولا بين المعلومة والرأي، فاختلطت الحقائق بالأوهام، وامتزج الصدق بالافتراء، حتى غدت الحقيقة في هذا الزحام غريبة الوجه والهوية.

     كـم من إشـاعةٍ انتشرت فأحدثت شرخًا في المجتمع، أو أذكت خلافًا بين أبناء الوطن الواحد، أو شوّهت سمعة شخصٍ بريء، ثم ما لبثت أن تبيّن زيفها بعد أن خلّفت في النفوس أثرًا لا يُمحى؛ عندها يبدأ البعض بتبرير ما نُشِر أو إعادة تفسيره، وكأنهم لم يدركوا أن الكلمات التي خرجت قد أصابت قومًا بجهالة، وألحقت أذًى لا يزول بالاعتذار.

     إنّ الوعـي الرقمـي اليوم لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية؛ فـالوطن الذي تُروَّج فيه الأكاذيب من دون تحقُّق، هو وطنٌ يُخترق من الداخل من دون رصاصة واحدة. 

ومـن هـنا؛
     يجـب أن نتعامل مع كل خبر أو معلومة تمر أمام أعيننا بعين الناقد المتبصّر، لا بعين المتلقّي المنساق، علينا أن نتعلم التحقّق قبل النشر، والتفكير قبل التفاعل، فليس كل ما يُقال يُصدَّق، وليس كل ما يُكتَب يُنشَر.

     إن الانجـرار وراء الشائعات لا يُضعف الأفراد فحسب، بل يُربك الدول ويُعطّل مسارها؛ فكم من قراراتٍ تأجلت، ومشروعاتٍ تعطلت، وثقة بين الحاكم والمحكوم تزعزعت، لأن البعض فضّل أن يكون ناقلًا لما يسمع بدل أن يكون باحثًا عن الحقيقة.

     فـلنجعل من وعينا حصنًا منيعًا أمام كل ما يُبثّ في الفضاء الإلكتروني، ولنُدرك أن الكلمة مسؤولية، وأن التحقّق واجب، وأن السكوت أحيانًا فضيلة إذا كان الكلام سيزرع فتنة. 

     فـما أحـوجنا اليوم إلى عقولٍ راشدة، لا تهتز أمام العناوين البراقة، ولا تنساق وراء الزيف، بل تقف على الحقيقة لتبني موقفها بعلمٍ ورؤية وبصيرة.

     احـذروا الانجـرار وراء شائعات العصر الرقمي، فإن الأوطان لا تُهدم بالحروب وحدها، بل قد تهدمها كلمة عابرة، أو إشاعة عابثة، يطلقها جاهل، ويتلقفها ساذج، ويندم بعدها الجميع.

     إنّ المسـؤولية اليوم لا تقع على الأفراد وحدهم، بل تمتد لتشمل المؤسسات الإعلامية، والجهات الرسمية، والمنصات التي تُخاطب وعي الناس وتشكّل مداركهم. 

     فـكما يُحاسب المواطن على كلمته، يجب أن تُحاسب المنابر على ما تبثه، وأن تلتزم بأخلاقيات المهنة وشرف الكلمة. 

     كـما أن على الجهات الرسمـية أن تُبادر بسُرعة إلى التوضيح والرد على الإشاعات، حتى لا تترك فراغًا يملؤه المتربصون.

     إنّ بـناء الثـقة بين الدولة والمجتمع يبدأ من صدق المعلومة وشفافية الخطاب، فـالإعـلام النـزيه هو درع الأوطان في مواجهة حملات التضليل، وهو الحصن الأول لحماية الوعي الجمعي من التلاعب والتزييف. 
     ولـذلك، فـإنّ التوعية ليست ترفًا إعلاميًا، بل واجب وطني وأخلاقي، تُبنى به المجتمعات، وتُصان به الحقيقة من عبث المضللين.

وهـكذا، 
     نقـف على حافة هاويتين: هُوَّة الصمت المطبق، وَهُوَّة الكلام العشوائي؛ وكما أن السكـوت عن الحـق قد يُميت الضمير، فإن الانجراف وراء كلِّ صيحة قد يُهلك البصيرة.
 
     فـليست القضية في مـنع تدفـق المعلومات، ولكـن في تنقية منابعها، وغربلتها بمنخل العقل والنقد، قبل أن تتحول إلى سيل جارف يمحو الحقائق، ويزرع الشكوك، ويقوض أركان مجتمعاتنا من داخلها.

     إن مواجـهة هذا الخـطر الافتراضي تتطلب صحوة ضمير جماعية، يقف فيها الفرد حارسًا أمينًا على وعيه قبل وعي الآخرين، وتتحمل فيها المؤسسات مسؤوليتها في بناء مناعة مجتمعية تقاوم فيروس التضليل. 

     فـالحقيقة ليست مجرد معلومة صحيحة، بل هي التزام أخلاقي، ومسؤولية إنسانية، وواجب وطني.

فـلنكن؛ 
     جمـيعًا ذلك الحائـط الصلب الذي تتحطم عليه أمـواج الإشـاعات، ولنكـن تلك العقول المتأملة التي ترفض أن تكون أداة في يد المتربصين. 

     فـبين فـكّي كماشة التسرع والجهالة، تُطحـن كرامـة الأفراد ومصير الأمم. 

     وليـس النجاة منها ببعيد، بل هو قابض على جمرة الوعي، حتى لا تتحول أوطاننا - بسكوتنا أو انجرارنا - إلى ساحات حرب نخسرها بأيـدينا قبل أيـدي أعـدائنا.


.