حين يتكلّم الصمت وتبكي الذاكرة
بين الحنين والنسيان، تتماوج أرواحنا كما تتمايل أوراق الخريف في مهبّ الريح، لا تعرف أين تستقر ولا متى تنتهي رحلتها. تتأرجح الروح كغصنٍ أنهكته الرياح، لكنها تأبى الانكسار.
هناك في المسافة التي لا تقاس بالوقت بل بالوجع، تنبعث الذاكرة من رمادها، وتعلو على صمت الزمن كأنها نداء بعيد يوقظ القلب من غفوته.
كم هو غريب أمر الذاكرة؛ فهي لا تموت حين يغيب أصحابها، بل تحيا في تفاصيلهم الصغيرة، في ظل الصور المعلقة على جدار القلب، في رائحة الأمس التي تُخاتلنا كلما حاولنا النجاة منها.
الحنين ذلك الزائر الثقيل الخفيف
لا يستأذن حين يدخل، ولا يرحل حين نرجوه أن يغادر يأتي في لحظة ساكنة ليعيد ترتيب الفوضى التي تركها الغياب، ليذكرنا أننا ما زلنا نحب، وما زلنا نحمل في أعماقنا تلك الندبة الجميلة التي لا تندمل. إنه مقاومة الروح للفناء، تمردها على النسيان، محاولة البقاء في وجه العدم كل حنين هو وعد لم ينجز، ورسالة لم تكتب، ويد ما تزال ممدودة عبر المسافة تبحث عن دفءٍ مألوف.
أما النسيان، فليس كما يظنه الناس موتاً ثانياً، بل هو تحول الذاكرة من لهب إلى رماد، من حضورٍ جارح إلى ظلٍّ هادئ.
إنه مهارة القلب في التعايش مع الخسارة، قدرة الروح على ترويض الوجع حتى يصير جزءاً من نسيجها فحين ننسى، نحن لا نمحو ما كان، بل نعيد رسمه بلون أخف، كأننا نحفظه بطريقة لا تؤلمنا.
في لحظة التأمل العميق، ندرك أن الزمن ليس دواء كما يُقال، بل شاهدٌ صامت على ما لم نُشفَ منه بعد فكل ذكرى تمرّ تحمل في طياتها بقايا أنفسنا القديمة، وكل لحظة نسيان هي محاولة فاشلة لتجاوز ما لم يغادرنا يوماً.
ما بين الحنين والنسيان تتشكل ملامح الإنسان هناك نكتشف هشاشتنا وجلالنا، ضعفنا وقوتنا، ألمنا الذي يصنعنا من جديد.
ولعل أجمل ما في الذاكرة أنها لا تُصغي للمنطق، بل للنبض تحفظ ما أحببناه لا ما أردنا أن نحفظه، وتبقي على ما جرحنا أكثر مما تبقي على ما أفرحنا هي ذاكرة من ضوءٍ ووجع، من صوتٍ وصمت، من غيابٍ لا يغيب.
في نهاية المطاف، لا ينتصر النسيان تماماً، ولا يخسر الحنين كل المعركة إنهما وجهان لعملة واحدة اسمها "الإنسان"، نعيش بينهما كمسافرين في طريق لا نهاية له.
كلما حاولنا أن ننسى، تذكرنا أكثر، وكلما ابتعدنا، عاد الماضي إلينا متنكراً في ملامح الحاضر.
فيا من أضناكم الحنين، لا تخافوا من الذاكرة، فهي ليست لعنة بل شهادة على أنكم عشتم بصدق، وأحببتم بعمق، وخسرتم بما يليق بكرامة القلب.
أما النسيان، فاتركوه يأتي حين يشاء، لأنه لا يأتي إلا حين يصبح البقاء مؤلماً أكثر من الرحيل.
وفي تلك اللحظة التي يلتقي فيها الحنين بالنسيان، يولد الصلح بين القلب والزمن، ويدرك الإنسان أن كل ما عبر لم يغب، بل تحوّل إلى ضوءٍ يسكن الأعماق… ضوءٍ لا يُرى، لكنه يُضيء.



