تهامة الشفرة الاستراتيجية المجهولة محور الاشتباك والسيطرة....
في الارشيفات السرية حيث تحفظ خرائط النفوذ الحقيقية وفي الغرف المغلقة حيث تصاغ العقائد الاستراتيجية للدول هناك اماكن تعرف بنقاط الارتكاز الجيوسياسية محاور جغرافية محدودة تمتلك القدرة الكامنة على تغيير مسار التاريخ الاقليمي والعالمي وباب المندب احد تلك النقاط ولكن اهميته الحقيقية تكمن فيما بعده من ساحل ممتد شمالا هناك العمق الاستراتيجي.
وقد ادرك العالم متاخرا وبثمن باهظ ان ساحل تهامة هذا الشريط الساحلي الذي تم تجاهله عمدا واهماله بشكل ممنهج هو احد اخطر هذه النقاط وأكثرها حساسية والازمة التي ظهرت للعالم في البحر الاحمر لا تهدد فقط بتعطيل شرايين الاقتصاد العالمي بل باعادة رسم خرائط التحالفات العسكرية ليست مجرد نتاج عرضي لصراع محلي معقد انها في جوهرها التجسيد العنيف والنهائي لمشروع اضعاف استمر لقرن كامل مشروع لم يهدف فقط الى تهميش منطقة بل الى محو هويتها وقتل روح المقاومة فيها لضمان بقائها فضاء استراتيجيا ميتا في خدمة مركزية سلطوية وهذه ليست مجرد قصة صراع بل هي فك لشفرة الظل رحلة الى العقل الباطن للجغرافيا السياسية لفهم كيف ان الظلم المتعمد لجغرافيا واحدة تهامة اصبح اليوم الكابوس الذي يروع العالم.
حين منعت المقاومة التهامية مع القوات المشتركة وهي على بوابة مدينة الحديدة من تحريرها في عام 2018 لم تكن تلك مجرد لحظة عسكرية في معركة التحرير بل كانت لحظة كاشفة نقطة تحول تاريخية كان يمكن ان تعيد تعريف علاقة تهامة بالبحر وعلاقة العالم بتهامة وكانت فرصة نادرة لكي تظهر تهامة للعالم وجهها الحقيقي لا كارض للجوع والفقر كما صورتها الزيدية وروايات الاغاثة بل كقوة بحرية كامنة وقطب اقتصادي واعد وحارس طبيعي لاحد اهم الممرات المائية على الكوكب لكن هذه اللحظة بكل ما حملته من امكانات استراتيجية تم اجهاضها ببراعة شيطانية لتخادم الهضبة الزيدية تقاطعت التوازنات الدولية الهشة مع ضغط الروايات الانسانية المصطنعة التي ضخمتها الزيدية بفاعلية مع شبكات التأثير الايرانية لتسقط هذه الفرصة التاريخية من يد اهلها وهكذا تحولت تهامة في لحظة واحدة من بوابة خلاص محتمل الى قيد جديد لا يقيدها وحدها بل يقيد معها حرية الملاحة العالمية.
ما حدث لم يكن مجرد سوء تقدير دولي بل كان التتويج المنطقي لمعادلة حكم راسخة معادلة المركزية السلطوية التي حكمت اليمن لعقود فنظرت الهضبة الزيدية الحاكمة في صنعاء عبر مختلف اطوارها الى تهامة ليس كشريك في الوطن بل كفناء خلفي ومستعمرة داخلية لم تكتف بتهميشها بل حولتها الى فضاء مستباح بلا صوت سياسي بلا تمثيل حقيقي بلا افق تنموي وكان البحر الاحمر بالنسبة لهم مجرد واجهة بحرية تدار من الداخل والساحل التهامي مجرد ارض محروقة تستخدم كورقة ضغط عند الحاجة او كمصدر دخل غير مشروع عبر شبكات التهريب وفي ظل هذا الفراغ المتعمد كان من الطبيعي ان تجد ايران بمشروعها التوسعي مع الزيدية الطموح في هذا الساحل المتروك بوابة ذهبية لمد نفوذها الى قلب الممرات البحرية العالمية فقد وجدت في وكلائها الحوثيين الاداة المثالية لتنفيذ هذه المهمة فحولوا موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى الى قواعد عسكرية متقدمة تخدم المشروع الاقليمي لطهران وكل ذلك تحت غطاء خطاب انساني محكم صمم خصيصا لابتزاز المراكز الغربية وشل ارادتها.
فعندما تدفقت جحافل الحوثيين من المرتفعات الجبلية نحو السهل الساحلي لم يجدوا ارضا بلا شعب بل وجدوا مجتمعا حيا وان كان منهكا قاوم ببسالة فطرية واجهوا مقاومة مجتمعية عنيدة في كل مدينة وقرية لكن هذه المقاومة كانت اشبه بصراع الجسد الاعزل ضد آلة مدرعة الحوثيون لم يأتوا باسلحتهم الخاصة فحسب بل اتوا بترسانة الدولة المركزية اليمنية باكملها تلك الترسانة التي كان من المفترض ان تحمي كل اليمنيين ولكنها كانت ولعقود اداة مسلطة على رقاب ابناء تهامة لضمان اخضاعهم كانت معركة غير متكافئة بكل المقاييس حيث استخدمت ميليشيا عقائدية القوة الصلبة لدولة باكملها لسحق مقاومة شعبية تم تجريدها من كل وسائل القوة على مدى اجيال.
هنا يكمن جوهر المأساة التهامية التي يجب فهمها ليس كحدث بل كعملية مستمرة منذ سقوط اخر الكيانات السياسية في تهامة قبل قرن اخضعت تهامة بالاحتلال بالحديد والنار لحكم ثابت مستمر مع الانظمة المتعاقبة في صنعاء سواء كانت امامية زيدية او جمهورية زيدية وهذه المنهجية لم تكن مجرد سياسة اهمال بل كانت استراتيجية افقار واخضاع مصممة بدقة لتحقيق هدف واحد تحييد تهامة كقوة سياسية محتملة وادركت نخب الهضبة ان تمكين تهامة يعني حتما نهاية مركزيتهم واحلامهم السلطوية لان تهامة القوية والمستقلة ستقضي على نموذج الدولة الريعية التي تعيش على نهب ثروات الساحل لتحقيق هذا الهدف فتم تطبيق سياسة المواطنة المتدرجة حيث عومل الانسان التهامي كمواطن من الدرجة الثالثة او الرابعة ولم يكن هذا مجرد شعور بل كان واقع مؤسسي انعكس في كل شيء في التوظيف الحكومي في توزيع المشاريع في التمثيل السياسي وفي التعامل الامني كانت عملية قتل للروح المعنوية تهدف الى زرع شعور عميق بالدونية والعجز في نفسية الانسان التهامي واقناعه انه غير مؤهل للحكم او المشاركة السياسية توازى مع ذلك مشروع محو ثقافي ممنهج هدف الى طمس الهوية التهامية المتفردة وتاريخها البحري العريق وثقافتها الغنية وتقديمها كجزء باهت وملحق بثقافة المركز والهدف النهائي كان تحويل تهامة الى ارض بلا شعب بالمعنى السياسي والروحي شعب بلا ذاكرة جماعية وبلا طموح للمستقبل وبالتالي بلا قدرة على المقاومة المنظمة.
نعود الى اتفاق ستوكهولم عام 2018 الذي كان الضربة القاضية التي اكملت هذه الدائرة الخبيثة حين كانت المقاومة التهامية التي نهضت من تحت ركام قرن من القمع على وشك تحقيق نصر استراتيجي بتحرير الحديدة تدخل المجتمع الدولي ليس لانقاذ الانسانية بل لانقاذ النموذج القديم اوقفوا المعركة تحت ضغط روايات انسانية مصطنعة ولوبيات زيدية - ايرانية فعالة واعادوا تكريس معادلة الوصاية على تهامة كان القرار بمثابة رسالة واضحة يسمح لابناء تهامة ان يموتوا في صمت ولكن لا يسمح لهم ان ينتصروا ويقرروا مصيرهم تم منعهم من فك شفرة ارضهم بايديهم وتركت الشفرة في يد وكيل ايراني-زيدي حول الساحل الى منصة حرب بالوكالة تهدد الامن العالمي النتائج الكارثية لهذه السياسة نراها اليوم بوضوح تحول البحر الاحمر من ممر تجاري امن الى مسرح عمليات للحرب غير المتكافئة حيث تتحدى طائرات مسيرة وزوارق مفخخة اقوى الاساطيل البحرية في العالم واثبت الحوثيون كيف يمكن لفاعل من غير الدول مدعوم من قوة اقليمية تسعى لفرض هيمنتها ان يستغل فراغ القوة في منطقة حيوية لممارسة ابتزاز استراتيجي على نطاق عالمي تراجعت حركة الشحن وارتفعت تكاليف التأمين وتغيرت خرائط التجارة ليس بسبب قوة الحوثي الذاتية بل بسبب الضعف المصطنع الذي فرض على البيئة الحاضنة للمقاومة الحقيقية المجتمع التهامي.
القوة الحقيقية لتهامة لا تكمن فقط في موقعها الجغرافي بل في امكانية تحويلها من نقطة ضعف الى اصل استراتيجي تمكين اهل تهامة سياسيا وعسكريا واقتصاديا ليس مجرد عدالة تاريخية بل انجع سياسة احتواء ضد التوسع الايراني في المنطقة قوة تهامية من ابناء الارض مسؤولة امام شعبها ستكون اكثر فعالية واقل تكلفة واعلى شرعية من اي تدخل ستحول الساحل من خاصرة رخوة الى جدار دفاع متقدم يؤمن الملاحة الدولية ويقطع طرق الامداد الايرانية اليوم يقف العالم امام مفترق طرق اما الاستمرار في التعامل مع تهامة كملف انساني هامشي ودفع ثمن هذا الخطأ الاستراتيجي عبر زيادة النفقات العسكرية وعدم الاستقرار الاقتصادي او الاعتراف بالحقيقة المرة امن البحر الاحمر يبدأ من تمكين شعب تهامة استعادة هذه الحقيقة ليست مجرد مطلب محلي لشعب مظلوم بل هي ضرورة امنية للعالم بأسره المستقبل لن يكتب في صنعاء او طهران بل سيولد من رحم تهامة نفسها اذا ما منحت حقها في الحياة والسيادة لحظة 2018 ضاعت لكن التاريخ لم يغلق بابه بعد والفرصة ما زالت سانحة لتصحيح المسار وادراك ان فك هذه الشفرة الاستراتيجية المجهولة لا يمكن ان يتم الا بايدي اهلها قصة تهامة هي قصة تحذيرية للعالم تعلمنا ان الظلم حتى لو كان صامتا ومنسيا يمتلك ذاكرة طويلة وصبرا لا ينفد والجغرافيا المقهورة عاجلا ام اجلا ستجد طريقة للانتقام انتهى زمن الصمت وحان وقت الاستماع الى اللحن الحزين الصاعد من هذا الساحل المنسي قبل ان يتحول الى ضجيج لا يمكن لاحد ايقافه.