في المعنى الأنثربولوجي للثقافة ....
بروفيسور / قاسم المحبشي ..
في كتابه المهم عن أسس الأنثربيولوجيا الثقافية كتب، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ميلفيل ج. هرسكوفيتز ما يلي : " إن القول بأن الزنجي الأمريكي قد فقد كل أثر من تراثه الثقافي الإفريقي هو خرافة… با حقيقة إذ لايزال أثر ذلك التراث حاضرا في حياة الأفارقة اليومية، في لغتهم، وموسيقاهم، ومعتقداتهم، وممارساتهم الطقسية حضورا قويا في حياة احفاد المهاجرين الأفارقة الاوائل بعد مرور مئات السنين على قدومهم إلى العالم الجديد ...
إن الثقافة لا تُمحى بالعبودية، بل تعيد تشكيل نفسها بطرق خفية ومستترة" (أسطورة الماضي الزنجي (1941)..
وفي تتبعه لمدى التغيير الثقافي في احفاد الماجرين الأفارقة أكد " أن نسبة التغير التي تكاد تصل إلى 100% في ميدان التكنولوجيا، و95% في ميدان الاقتصاد، تنخفض إلى 40% في ميدان الدين، و20% في ميدان الفولوكلور، و5% فقط في ميدان الموسيقى" ( ينظر، معاذ قنبر، الثقافة من منظور أنثروبولوجي) ..
بهذا المعنى تمثل الثقافة طريقة كل جماعة محلية وأسلوب حياتها في هذا العالم بكل ما تتضمنه من تفاصيل تتصل بالطعام والشراب، والسكن، والعمل والزواج ، والزي، والقصص، والأمثال، والحكم، وتنظيم الأسرة، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض أو بالمجموع، والأفكار والمعتقدات والعادات والقيم والأعراف وكل شيء نفعله أو نفكر فيه بالمجتمع...
" فعند هجرة عائلة عربية لإحدى الدول الأوروبية، على سبيل المثال، تبدأ هذه الأسرة بالتفاعل مع ثقافة البلد الجديد، التي تتميز باختلافها جذريا عن ثقافة الأسرة العربية من حيث اللغة، والدين، والقيم والأعراف والمعتقدات، وما إلى ذلك. وهذا التفاعل بين خصائص ثقافتين مختلفتين، يؤدي بمرور الأيام إلى خلق ثقافة جديدة تحملها الأسرة العربية تمثل ثقافتها الأصلية من جهة، وبعضا من خصائص الثقافة المستضيفة من جهة أخرى؛ فتبدأ الأسرة العربية بتعلم لغة البلد الجديد، والتعرف على مناسباتهم وأعيادهم الوطنية، وتجربة ملبوساتهم وأطعمتهم المتنوعة، والتكيف مع سلوكياتهم كأوقات النوم والاستيقاظ، واستخدام وسائل النقل العامة، وغيرها...
وهذا التغيير الحادث في ثقافة الأسرة العربية، يمثل نتاجا واضحا للتلاقح بين الحضارات على مستوى الأفراد...
أما على مستوى الشعوب، فلم يعد التلاقح بين الحضارات خيارا، بل أصبح ضرورة لكل الشعوب التي تسعى نحو إقامة السلام العالمي؛ فالعالم اليوم صار قرية واحدة، لا يمكن عزل جزء منها عن الآخر، بل بات من الواجب تقريب الحضارات بعضها من بعض، من خلال تشجيع التفاعل والاحتكاك الإيجابيين بين شعوبها بهدف إثراء الحضارة الإنسانية. ومن خلال التلاقح بين الحضارات، تستفيد شعوب كل حضارة بأخذ ما يناسبها ويتفق مع ثقافتها، وتمنح لشعوب الحضارات الأخرى ما تملكه من خبرات وعلوم واستكشافات. فالحضارات المتقدمة هي تلك التي لم تعزل نفسها عن الحضارات الأخرى، بل هي التي سعت نحو التفاعل والاحتكاك بالحضارات المختلفة، وأخذت من علومها وتراثها الثقافي بما يتناسب مع طبيعتها...
ولإنجاح عملية التلاقح بين الحضارات، لابد أن تمتلك الشعوب استعدادا وجاهزية لتقبل الاختلافات الثقافية بينها وبين الشعوب الأخرى. ويطلق على هذا الاستعداد النفسي في علم الأنثروبولوجيا الثقافية مفهوم الكفاءة بين-الثقافية Intercultural Competence. ويعرف المفكر الأمريكي ملتون بينيت Milton Bennett الكفاءة بين-الثقافية بأنها: مجموعة من المهارات، والخصائص المعرفية والسلوكية والوجدانية، التي تدعم التواصل الفعال والملائم في البيئات المتنوعة ثقافيا...
وتشير الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية إلى وجود عوامل تساعد على عملية التلاقح بين الحضارات. فقد وجد الباحثون أن الفرد الذي يعيش في بيئة ثقافية منغلقة، غالبا ما يحمل استعدادا أقل للتفاعل والتواصل الإيجابيين مع أي ثقافة مختلفة؛ فالاحتكاك الثقافي يعزز من قدرة الفرد على تقبل الآخر المختلف، كما أن إتقان اللغات المختلفة يسهم بشكل إيجابي في التكيف الثقافي مع شعوب الحضارات المختلفة...
ويؤدي التعليم دورا مهما في تهيئة فرص التلاقح بين الحضارات؛ فالشعوب الأكثر تعليما تبدي تقبلا وانفتاحا وترحيبا بالثقافات المتنوعة، وذلك بحسب ما تشير إليه الدراسات في هذا المجال. وتوصل الباحثون أيضا إلى أن علاقات المصاهرة بين الثقافات المختلفة تعزز بشكل كبير قدرة الفرد على التعاون والتفاعل والتواصل الإيجابي مع الثقافات المختلفة...
ومما تقدم، يمكن القول بأن نجاح عملية التلاقح بين الحضارات مرهون إلى حد كبير بقدرة الشعوب على النظر إلى الاختلافات الثقافية كفرصة قيمة لتشكيل ثقافة إنسانية عالمية، تعكس قيم السلام العالمي والتعايش السلمي بين الحضارات" ( ينظر، د. العنود الرشيدي، الأنثروبولوجيا الثقافية؛ علم نشأ عن فضول الطبيعة البشرية٢٠٢١)....