ستة إيام في (Edam) الهولندية مع ديان عمر ديان..

بروفيسور / قاسم المحبشي ..

ستة إيام في (Edam) الهولندية مع ديان عمر ديان.. ( بلاد الماء والخضرة واللبن والوجه الحسن )..

منذ زمن طويل وأنا أبحث في عبقرية الاستجابة الهولندية لتحدي الطبيعة الجغرافية ممثلة بالقوة المائية الهائلة ؛ إذ لا يوجد شعب في العالم المتحضر اليوم مرّ بخبرة وتجربة الهولنديين مع المياة المتدفقة باستمرار من الأمطار الغزيرة والبحار والأنهار. إذ إن جغرافيا المملكة الهولندية( الأراضي المنخفضة) Nederlands كما تُعرف شعبيًا، تتميز بتحديات خطيرة وفريدة نابعة من موقعها وطبيعتها الجغرافية إذ إن حوالي 26% من أراضيها يقع تحت مستوى سطح البحر، وحوالي نصف أراضيها على ارتفاع متر واحد فقط عن سطح البحر. وهذا ما جعلها عرضة للفيضانات من بحر الشمال والأنهار الكبرى مثل الراين، الماز، وشيلد التي تجري في كل أنحاءها مجرى الدم في الجسد ..

فهولندا هي البلد الوحيد التي تضم أكثر من 1000 نهر ومجرى مائي، بما في ذلك الأنهار الرئيسية والروافد الفرعية، إضافة إلى القنوات الصناعية التي يبلغ طولها الإجمالي حوالي 5600 كيلومتر من الممرات المائية الصالحة للملاحة و يُعد الراين، بطول حوالي 1320 كم (جزء كبير منه في هولندا)، أحد أطول وأهم الأنهار في أوروبا ونهر الماز: الذي ينبع من فرنسا ويمر عبر بلجيكا قبل دخوله هولندا، ثاني أكبر انهارها حيث يلعب دورًا حاسمًا في تصريف المياه ودعم الزراعة في المناطق الهولندية الجنوبية أما نهر شيلد: الذي يربط هولندا ببلجيكا فهو ثالث أكبر انهارها ويمكن تشبيه الأنهار المتدفقة في الأرضي المنخفضة بعروق الدم التي تجرى في الجسد الحي ؛ هذا التشبيه ليس مجازيًا، بل يعكس الدور الحيوي لهذه الممرات المائية في استمرارية الحياة في هولندا. كما تنقل الشرايين الدم لتغذية الجسم. تبلغ مساحة هولندا: حوالي 41,543 كيلومتر مربع وعدد سكانها: حوالي 17.9 مليون نسمة بالنسبة للمساحة والسكان هولندا واحدة من الدول ذات الكثافة السكانية العالية في أوروبا إذ تبلغ مساحتها ربع مساحة حضرموت (محافظة في جنوب اليمن) ومع ذلك لا يبات فيها - أقصد هولندا- كائنا حيا في العراء؛ كل الكائنات الحية لديها في هولندا بيوت تأويها ( الناس والحيوانات ، المواطنيين واللاجئين..

إذ ينص القانون الهولندي "على منح كل لاجئ سكن وإعاشة من أول ما تطأ قدميه هولندا بدون استثناء " قرابة العشرين مليون من المواطنيين والمقيمين وملايين الحيوانات الأليفة ( بقر، وضأن وأغنام وخيول وبغال وغزلان وخنازير وجمال وحمير ، وكلاب وقطط.الخ كل تلك الكائنات التي تعد بالملايين لديتها بيوت تأويها في مختلف أرجاء هولندا ومع ذلك تجد الانهار والبحيرات والغابات والمزارع والحدائق والمراعي على مدى الأبصار، حيثما وليت وجهك! اذ تبدو في لحظة هطول الأمطار سماء وماء على نحو يثير الخوف والقلق. حينما ترى المزارع الوسيعة والغابات الظليلة والمراعي المزدحمة بالحيوانات الأليفة تسأل نفسك اين تعيش كل هذه الكائنات الحية التي تعد بالملايين ( حوالي أربعة مليون بقرة، ومليون ونصف من الأغنام و حوالي 22.6 مليون ميلون من الحيوانات الأليفة فضلا عن الأجهزة التقنية والقوارب والسفن والمراكب والطيارات والقطارات والباصات والدراجات الهوائية والكهربائية واشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى توجد في هولندا بطريقة نظامية وتعمل مثل الساعة وكأنها جزء من المشهد الطبيعي للبلد..

اعرف هولندا منذ كنت طفلا بحليبها دانو و سويت تايم وحليب الرضع بيبينا، فضلا عن جبنتها الشهيرة جودة وإيدام وليدن وغيرها كما عرفتها منذ سبعينيات القرن الماضي عبر كرة القدم إذ احتل المنتخب الهولندي المكانة العريقة في عالم كرة القدم منذ السبعينات، بعدما اشتهر بطريقة لعبه الفريدة والتي أطلق عليها الكرة الشاملة.وعرفتها أكثر عبر فيلسوفها الأشهر باروخ إسبينوزا صاحب فكرة (الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة) ربما كان للطبيعة الجغرافية المائية آثرها في فلسفة إسبينوزا وفي ثقافة الهولنديين كما لاحظت بعد أن شاهدتها بأم عيني. أول ما رأيتها من الطائرة ..

قبل عام ونصف تقريبا؛ واحة خضراء تطفو على الماء فكان السؤال: من أي النوافذ يمكن الإطلالة على هذه الواحة الكثيفة الظلال؟ ومن أي الأبواب يمكن الدخول إلى هذه الجزيرة الطافية؟ وكيف يمكن لمن جاء من بلاد الصحاري الممتدة والجبال الوعرة إن يفهم لغة الماء وهسهسة
 المعنى في جنة الماء واللبن والوجه الحسن! وكما وجد أول الفلاسفة طاليس بالماء شفرة البحث عن المعنى في جزيرة مالطة اليونانية وجدت في الماء مفتاح سر الأرضي المنخفضة بما يمكنني الحديث عن فلسفة الماء الهولندية المزدوجة المعنى:  فالماء هنا هو الخير والشر ، الحياة، والموت القوة والضعف، العدو والصديق فهو خصم يهدد الأرض والبشر، ولكنه في الوقت ذاته شريك لا غنى عنه في تأسيس هولندا وبقاءها وازدهارها ونظامها الديمقراطي الملكي، خطر الماء وقيمته الحيوية، قوته العمياء وخبرة ترويضه فهذه الثنائية التي تعكس فهماً فلسفياً عميقاً للعلاقة بين الإنسان والطبيعة يمكن فهم هولندا إذ لم يسعى الهولنديون عبر تاريخهم الطويل في الصراع مع قوة الماء العمياء إلى قهر الماء أو إخضاعه بالقوة، بل إلى فهمه والتكيف معه..

هذا النهج يتجاوز المفهوم التقليدي للسيطرة، إذ يعتمد على التوازن والاحترام المتبادل. وهكذا ليست المسألة مجرد هندسية مائية برع فيها الهولنديين،بل تعبيراً عن إيمان راسخ  بقدرة الإنسان على إعادة تشكيل بيئته دون أن يفقد تواضعه أمام قوة الطبيعة القاهرة" الإنسان العاقل هو من يعمل بموجب ضرورة طبيعته، تمامًا كما يندفع الماء نحو الأسفل بقوة طبيعته" بحسب الفيلسوف باروخ سبينوزا:  ( 1632–1677)  الذي أكد أن “كل شيء يسعى للاستمرار في وجوده” وهذا المبدأ يبدو واضحاً في ثقافية وسلوك الهولنديين الذي تمكنوا من الحفاظ على أراضيهم من الغرق في فيضانات بحر الشمال وتدفق الانهار بعد تجارب قاسية من الصراع الطويل مع قوة المياة العمياء والتوصل إلى صيغة ممكنة لترويضها واعادة توظيفها بما يجعلها عاملا النماء والازدهار بدلا من أن ظلت لزمن طويل قوة الرعب والتدمير..

 إذ تشير الدراسات التاريخية إلى تعرض هولندا لعدد لا يحصى من الكوارث الطبيعية الممثلة بالفيضانات القوية ومنها : فيضان ٢٦ ديسمبر عام 838 ميلادية، حوالي 2437 ضحية. وفيضان 1212م أحد أكثر الفيضانات دموية، حيث تشير التقديرات إلى غرق حوالي 60,000 شخص نتيجة فيضان بحر الشمال الذي استمر أكثر من 6 أشهر، مما أجبر مئات الآلاف من السكان على ترك منازلهم وتسبب بأضرار هائلة وفيضان سينت فيليكس 1530م يُعد الأكثر تدميرا في تاريخ أوروبا، حيث غرق حوالي 120,000 شخص هولندي وفيضان بحر الشمال 1953م أحد أكثر الفيضانات كارثية في العصر الحديث، حيث انهارت سدود زيلاند، مما أدى إلى غرق حوالي 1835 شخصًا وتشريد 72,000 وغمر 200,000 هكتار من الأراضي. أدى إلى إنشاء مشروع دلتا الدفاعي. تلك بعض الأمثلة المختارة إذ يطلعنا تاريخ هولندا على مواجهة مستمرة بين الماء والإنسان على مدى الأعوام والسؤال المهم هو كيف تمكن الهولنديين من ترويض الماء والتعايش معه؟ ذلك هو ما يبعث الإعجاب بقدرة الهولنديين على خلق وطنهم بعد انقاذه من قلب العاصفة ويرى الذكاء الاصطناعي " ..

إن براعة الهولنديين في ترويض الماء ليست مجرد قصة نجاح هندسي، بل هي انعكاس لروح شعب يؤمن بقدرته على مواجهة التحديات بذكاء وصبر وتعاون. الماء، في هذا السياق، يصبح مرآة تعكس قيم الشعب الهولندي: البراغماتية، التضامن، والإبداع. هذه القيم ليست مجرد سمات ثقافية، بل هي تعبير عن فلسفة حياة تجمع بين التواضع والانسيابية والقدرة والثقة على التحكم والسيطرة فليس هناك قوة في الدنيا يمكنها إيقاف تدفق الماء كما أن الماء يجد يحفر لذاته مجراه بين اصلب الصخور، إذ يلف ويدور حينما يكون محصورا حتى يتجاوز الأحجار والأشجار في طريقه وحينما يكون الماء متجددا باستمرار كما هو حال الانهار والأمطار المتجددة على الدوام في البلاد المنخفضة فمن المؤكد أنه يترك أثره وتأثيرة الواضع في ثقافة الهولنديين طبعا ما نعرفه عن العلاقة المتبادلة بين الجغرافيا والثقافة إذ تؤثر البيئة الجغرافية بشكل عميق في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمعات، بما في ذلك عاداتها، تقاليدها، اقتصادها، وطريقة حياتها ومنذ أقمت في هولندا لاحظت إن ثمة شيء مختلف في سلوك الهولنديين وطريقة تعاملهم مع الأخيرين ( الاحترام والتقدير، الابتسامة الدائمة، روح التعاون والمساعدة، طول البال والصبر والأناقة، احترام النظام والقانون، القناعة والرضا بالعيش الكريم بلا بذخ ولا تقتير، الثقة والدقة والاعتزاز بالنفس، الأخلاص والامانه في اداء العمل، التواضع مع الحزم، قوة حبهم وانتمائهم لبلادهم وحرصهم على تنميتها وتمثيلها بأرقى وأفضل صورة ممكنة واشياء جميل أخرى) وبهذا المعنى نفهم العبارة التي تقول : (الله خلق الكون والهولنديون خلقوا هولندا) لا اعتقد إن ثمة شعب أخر في هذا العالم تمكن من مواجهة التحدي الوجودي بهذه الطريقة الهولندية الخلّاقة ومع ذلك لا يمانع الهولنديين من تقاسم وطنهم الباهض الثمن مع غيرهم من القادمين من مختلف جهات الأرض وأنا من اليمن ومن أصول فلاحية واعرف ماذا يعني إن تجد في هذا العالم اناسا يقاسمونك أرضهم الخصيبة بكل طيبة وأريحية..

ففي مدينة دنهاخ، ثاني أكبر مدينة هولندية بعد أمستردام. سكانها 1.051.889 معظمهم من أصول غير هولندية ( عرب، ترك، هنود، كرد، أمازيغ ، روس، فرس، أفارقة..الخ)  مدينة كزمولولبتيكي حقا وفعلا، من مختلف الاثنينات واللغات والحضارات والاديان متعايشين في مدينة لاهاي الهولندية، بأمان ونظام عالي الجودة قل نظيره في العالم وقس على ذلك المدن الاخرى. في مدينة(Edam)  الهولندية، حوالي 24 كيلومترًا بالسيارة. تعد من المدن الهولندية الساحرة التي تجمع بين التاريخ الغني والجمال الطبيعي. هناك في إيدام الهادئة امضيت الأسبوع الماضي بضيافة صديقي العزيز ديان عمر ديان رئيس الجالية الأسبق. أخذني بسيارته في جولة سياحية بالمدينة، زرنا اكبر بحيرة نهرية في هولندا وشاهدنا البوابات النهرية الكهربائية ثم ذهبنا السوق الشعبية في مدينة Volendam فولندام الأثرية الشهيرة بزيها الشعبي التقليدي، وخاصة لباس النساء الذي يُعد من الرموز الثقافية الهولندا. هي إحدى القرى السياحية الشهيرة في مقاطعة شمال هولندا (Noord-Holland)، وتقع على بعد حوالي 20 كيلومترًا شمال شرق العاصمة أمستردام، على ضفاف بحيرة Markermeer. تعتبر فولندام من أكثر الأماكن زيارة من قبل السياح في هولندا.
في فولندام زرنا معمل الجبن الهولندي الشهير ومصنع جلود البقر ، ثم ذهبنا لزيارة مزرعة البقر في وقت إدرار الحليب علما بان البقرة الهولندية تدر في المتوسط من 30-40 لترًا من الحليب يوميًا، وقد تصل إلى 60 لترًا في ذروة الإنتاج..

خالص الشكر والتقدير للصديق العزيز ديان عمر ديان على كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال ودمتم بخير وسلام....