العيون التي تشتهي ولا تقول..

العيون التي تشتهي ولا تقول..

منبر الاخبار / المنبر الثقافي ..


قصة للكاتبة الناشئة المبدعة :
هبة مسعد الحيدري ..

" جلستُ على كرسيّ عابر، في زاوية مزدحمة من هذا الوطن المتشظي، حيث لا شيء يتقاسم بالتساوي، لا الضوء، ولا الحلوى، ولا حتى النظرات.
ما كنتُ أنتظر شيئًا، كنت فقط أراقب الحياة تمرّ أمامي كعادتها… مزدحمة، مُتفاوتة، لا تعتذر لأحد.

كان هناك رجل، ملامحه تعبت من الصمت، وحوله ثلاث زهرات، بناتٌ صغيرات لا يعرفن من الدنيا إلا اللمعان الذي يسكن أعين الأطفال، كأن الفقر كان يسير معهم، لا على شكلِ ملابسٍ باهتة فقط، بل كظلٍّ ثقيلٍ فوق رؤوسهم، كحزنٍ يسرق من أعينهم القدرة على الفرح. جلسوا بصمت، كأنهم معتادون على الانتظار، على الرغبة التي لا تتحقق، وعلى التظاهر بأنهم لا يشتهون شيئًا لا يدٍ تأخذ ولا لسانٍ يطلب، فقط نظرات صامتة نحو الكرسي المقابل، حيث امرأة يفيض من هيئتها الثراء، وبجانبها ابنتها، تفتح كيسًا ممتلئًا بالحلوى، غير مدركة لحجم القهر الذي يتساقط على عيونٍ تشتهي ولا تقول. كانت تعبث بالحلوى وتأكل قطعة تلو الأخرى، بعفوية، ببراءة، بلا ذنب.

لكن الذنب كان يتكاثر في عينيّ، لأن ثلاث بناتٍ كنّ يراقبن كل تفصيل. لا بكاء، لا طلب، فقط نظرات حارقة، جائعة، خجولة، ترتجف تحتها كل معاني الحاجة. همسوا لوالدهم، وهم يعلمون أنه لا يملك، لكنه ابتسم كأن الحديث عن شيء آخر، كأن الكلمات يمكن أن تكون غطاءً للمعدة، كأن الأبوّة وحدها تكفي لتغطية العجز. الأب ينظر بعيدًا، يحاول أن يُلهي صغاره بكلمات مبتورة، يحاول أن يسرقهم من وجعهم، وكأن الحروف تملك القدرة على كسر الجوع، وكأن الفقر يمكن أن يُخفى بجملة. لكن العيون الصغيرة كانت تهمس، تتمنى، تراقب قطعة الحلوى كأنها العالم بأكمله.

أما الأم التي بجانب ابنتها، لم تلتفت. لم تلاحظ؟ أو لاحظت وتجاهلت؟ لا أعلم. لكني علمتُ حينها أن القسوة لم تكن في الكيس، ولا في الفارق الطبقي، بل في الصمت.

صمت الأم التي رأتهم، ولم يتحرك فيها شيء، لم تمد يدًا، لم تكلّف نفسها حتى بنظرة اعتذارٍ أو ترددٍ إنساني. رأيت في جمودها وجه وطنٍ مُنهك، يرى المشهد كل يوم، ويكمل سيره.

في تلك اللحظة… رأيت الوطن يتجلى في مشهدٍ واحد: أبٌ عاجز، أطفال يهمسون بحياءٍ موجع، امرأة لا تعرف من الغنى إلا المظهر، وفجوةٌ عميقة بين الكراسي لا يملؤها شيء.

اختنق صدري بمرارة لا تُحتمل، وأخذت أصارع ظلال اللوم المتشابكة؛ الوطن الذي لا يسع الجميع، القدر الذي يختار بعشوائية، الظلم الذي يتسلل كظل ثقيل، تفاوت الحظ الذي يمزق النسيج الإنساني، الإنسان نفسه، بل وحتى الحياة ذاتها. شعرت بثقل لا يُطاق، كأنني لا أطيق أن أرتدي عباءة ذلك الأب المنكسر، ولا أن أنبثق من رحم تلك الأم التي أغلقت قلبها على العالم، ولا أن أحتفظ في عينيّ بنظرات تلك البنات التي تُقتلها الحاجة بصمت.

دموعي غارت في عينيّ، وقلبي ضاق بضيق عميق، وتلاشى أمامي السؤال الأعظم: ألوم الوطن الذي لا يحتضن الجميع؟ أم ألوم أبًا انهكه الفقر حتى فقد قدرته؟ أم ألوم أمًا جعل الغنى قيدًا لقلبها؟ أم ألوم نفسي، لأنني عاجزة عن تبديل هذا المشهد المؤلم؟

مرت لحظاتٍ طويلة، وانتهى كل شيء بوصول أخي. صعدتُ السيارة وأنا أمسح وجهي، كأن شيئًا لم يكن. لكن شيئًا قد كان، شيء كبير، شيء جعلني أحمد الله من قلبي، وأتعوذ من فقرٍ يكسر هيبة الأب، ويدفن أحلام البنات، ويمنح للغنى فرصة أن يصبح قاسيًا بلا ثمن.

ليست العدالة أن نملك جميعًا نفس الحلوى، بل العدالة الحقيقية أن لا يُولَد طفلٌ وهو مضطرٌ أن يبتلع شهوته بصمتٍ، كأنه يخشى أن يعكر صفو أبيه، ويكتم صوت رغبته في أعماق قلبه.

بعض المشاهد لا تُنسى، لأنها لا تُرى بالعين وحدها، بل تُحفر في القلب، كأنها رسالة من الله، تهمس لنا بأن نكون رحماء متى ما استطعنا، لأن في لحظةٍ واحدة، قد تكون أنت من تملك، وقد تكون أنت من يتمنى" ..