الامارات وترامب بين مشهد اللقاء وصياغة التوازن العالمي..

منذ لحظة هبوط طائرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أرض الامارات العربية المتحدة بدت الصورة بعيدة كل البعد عن الطابع البروتوكولي المعتاد لقد كانت زيارة مشبعة بالرسائل الرمزية والدلالات الاستراتيجية حيث وقف رئيس أكبر قوة عالمية أمام دولة لم تعد تكتفي بدور المتلقي في المعادلة الدولية بل باتت تكتب هذه المعادلة بنفسها وتفرض وجودها كلاعب فاعل لا يمكن تجاوزه..

ترامب القادم من خلفية اقتصادية وذهنية صلبة تجاه الشرق الأوسط وجد نفسه أمام نموذج سياسي لا يشبه ما اختبره في المنطقة من قبل لم تكن العاصمة أبوظبي تستعرض أمامه مؤشرات النمو أو تكرر سردية الإنجازات بل كانت تقدم نفسها بصمت الكبار وعقل الدولة الواثقة من موقعها وحجمها الحقيقي في الإقليم والعالم..

الاستقبال الذي حظي به لم يكن حفل استقبال عادي بل كان ترجمة صريحة لمكانة استراتيجية متقدمة تمكنت الامارات من ترسيخها خلال العقدين الأخيرين ليس فقط في محيطها الخليجي والعربي بل على مستوى النظام الدولي حيث لم يعد ممكنا لأي قوة عظمى أن ترسم سياسة فاعلة في الشرق الأوسط دون المرور عبر البوابة الاماراتية..

في قصر الوطن حيث التقت الاستراتيجية بالجمال وحيث البروتوكول السياسي ارتقى إلى مستوى الرسالة الدولية أدرك الرئيس الأمريكي أن هذه الدولة لا تكرر التاريخ بل تصنعه  وحضور الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لم يكن مجرد وجود بروتوكولي بل كان تمثيلا لقائد يمسك بمفاتيح الحاضر ويضع ملامح المستقبل رجل لا تستهلكه اللحظة بل يستخدمها لتمرير مشروع وطني واضح المعالم عابر للحدود الجغرافية وقادر على التأثير في موازين القوى..

ترامب الذي اعتاد توصيف الزعماء بلغة مبسطة وجد نفسه أمام شخصية يصعب اختزالها فالتوازن في خطاب الشيخ محمد بن زايد الرؤية المتقدمة الانضباط في المواقف والقدرة على قراءة المشهد الإقليمي والدولي برؤية تتجاوز ردود الأفعال كلها عناصر جعلت من اللقاء مناسبة لاعتراف معلن بأن هذا القائد لا يُنتظر منه أن يتبع بل يُنتظر منه أن يقود..

زيارة جامع الشيخ زايد الكبير شكلت محطة رمزية مفصلية في زيارة ترامب لم تغلق أبواب هذا المعلم الإسلامي العريق من قبل أمام أي مسؤول سياسي ولكنها أغلقت هذه المرة لا من باب الاستثناء بل من باب الرسالة إن الامارات لا تتحدث عن التسامح كمصطلح إنشائي بل تمارسه كفلسفة دولية راسخة في سلوك الدولة ومؤسساتها وثقافتها العامة وقد بدا الرئيس الأمريكي مأخوذًا بمشهدية المكان وبدفء التسامح الذي لم يكن بحاجة إلى تبرير أو شرح لقد كان حاضرا كهوية سياسية وثقافية لا تُخفى..

وخرج ترامب بانطباع يتجاوز مضمون الاتفاقيات ومليارات الاستثمارات لقد وجد دولة لا تطلب الشراكة من موقع التبعية بل تؤسسها من موقع الندية دولة لا تبحث عن رضا العواصم الكبرى بل تبني علاقاتها على المصالح المتوازنة وتحترم سيادتها كما تحترم سيادة غيرها إنها ليست الدولة التي تُستدعى إلى الطاولات بل التي تدعو إليها وتحدد معايير الجلوس عليها..

لقد فهم ترامب أن هذه الدولة الصغيرة جغرافيا باتت محور توازن سياسي واقتصادي وأمني في المنطقة لا ترفع صوتها لكنها تحرك الطاولة لا تتدخل كثيرًا في الخطاب الإعلامي لكنها تقرر الكثير في غرف صناعة القرار لا تنغمس في ردود الأفعال لكنها تصنع المواقف وتفرض حسابات جديدة في لحظة سياسية معقدة..

فالامارات لا تكتفي بالمشاركة في المشهد بل تعيد تشكيله عبر سياسات لا ترتكز إلى الصدفة ولا تسير على وقع الأزمات بل تنبثق من رؤية طويلة المدى قاعدتها بناء دولة قادرة على التكيف والصمود والمنافسة والانفتاح..

أما الشيخ محمد بن زايد فلم يكن بحاجة إلى إثبات شيء حضوره سبق اللقاء وتأثيره تجاوز حدود الدولة هو قائد لا يسير خلف اللحظة بل يصنع لحظته الخاصة رجل دولة ببوصلة دقيقة لا تحركه الانفعالات ولا تغريه الأضواء منفتح على العالم لكنه لا يسمح أن يُبتلع داخله ملتزم بهوية وطنية متينة لكنها ليست انعزالية بل حاضنة للتعددية ومتصالحة مع العصر..

ولأن السياسة في الشرق الأوسط كثيرًا ما يُعاد تصديرها من الخارج فإن الامارات واحدة من قلائل يصدرون الموقف والرؤية والمبادرة من الداخل وهي الدولة التي إن دخلت ملفا حساسا دخلته بمسؤولية وإن سعت نحو تحالف سعت إليه بوعي استراتيجي وإن رفضت موقفا رفضته من موقع مستقل غير قابل للاصطفاف الأعمى أو الشعارات الاستهلاكية..

ترامب غادر الامارات وهو يحمل بين أوراقه ليس فقط عقودا اقتصادية أو تفاهمات أمنية بل رؤية مختلفة لمكانة هذه الدولة وفهم جديد لطبيعة دورها وموقعها في التوازن العالمي خرج بيقين سياسي مفاده أن هذه الدولة لا تطلب الاحترام بل تفرضه وأن قيادتها لا تنتظر التصفيق بل تشتغل على بناء نموذج سيادي قابل للتصدير بوصفه تجربة ناضجة وقوية ومستدامة..

في المحصلة لم تكن الزيارة مجرد مناسبة دبلوماسية بل إعلان ضمني أن الامارات لم تعد مفعولا به في السياسة الإقليمية بل فاعلا من الطراز الثقيل وأن مشروعها لا يتحرك في الهامش بل يخطو نحو قلب المعادلات ويعيد ضبط الإيقاع في منطقة تشهد تحولات متسارعة..

لقد اكتشف ترامب أن في الخليج دولة تمسك بالمفتاح وتدير اللحظة وتبني المستقبل وتعيد تعريف الممكن السياسي في زمن اللايقين إنها الامارات الدولة التي يعرفها شعبها أولا ثم يعرفها العالم بوصفها عقل الخليج وضمير المنطقة ومركز القرار الهادئ في زمن الصخب ...