الرأسمالية المتهالكة تواجه أعمق أزماتها: هل ينقذها "عرّاب الصفقات" دونالد ترامب؟

في لحظة فارقة من تاريخ النظام الرأسمالي العالمي، حيث تعصف به أزمات اقتصادية غير مسبوقة، ويبلغ العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي سقفًا مرعبًا تجاوز 30 تريليون دولار، تعود إلى الواجهة شخصية مثيرة للجدل: التاجر الصفيق، وعرّاب الصفقات الكبرى، دونالد ترامب، وقد جُدِّد انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة. فهل سيكون هذا "المنقذ الفجّ" قادرًا على لملمة أشلاء هذا النظام المتهالك؟ أم أن عودته ليست إلا إيذانًا بانهيار محتوم؟

ترامب يعود للشرق الأوسط... بـ"قافلة الذهب"

في أولى زياراته الخارجية بعد تجديد انتخابه، حطّ ترامب رحاله بالسعودية، ترافقه قافلة من كبار رجال المال والتكنولوجيا الأمريكيين: إيلون ماسك، مارك زوكربيرغ، ومالك منصة ChatGPT وغيرهم من أذرع وول ستريت وسيلكون فالي. الاستقبال كان مهيبًا ومذهلًا، حيث غمرهم ولي العهد محمد بن سلمان بكرمٍ بدويّ عربي حاتمي فخم في قصر اليمامة، ليردّ ترامب قائلًا له من نشوة اللقاء: "أنت صديقي، وأنا أحبك!"

صفقات التريليون... وحروب بالوكالة

بحسب تقارير الـBBC،اليوم بلغ إجمالي الصفقات التجارية والعسكرية المزمع توقيعها ترليون دولار، من ضمنها صفقة أسلحة ضخمة بقيمة 100 مليار دولار. قطر لم تُرِد أن تُترك خلف الركب، فاستبقت الزيارة بهدية "ملكية": طائرة رئاسية بقيمة نصف مليار دولار وقصر ذهبي بلغت تكلفته 400 مليون، بانتظار أن يزورها ترامب بعد السعودية لعقد صفقات إضافية.

أما المفارقة الصارخة، فهي أن الزيارة لا تشمل "الحليف الأقرب" إسرائيل!

من "الحلاب الأكبر" إلى "البطل المنتصر" في اليمن؟!

تتداولت وسائل الإعلام الامريكية والعربية مساء امس عشية الزبارة أن ترامب، بفجاجته المعهودة، صرّح بأن غاراته على الحوثيين في اليمن كلّفت أمريكا 8 مليار دولار فقط، ومع ذلك "أنجز ما لم تحققه السعودية في عشر سنوات"! زعم أن الحوثيين أبدوا شجاعة، ثم استسلموا. وكأنما الحرب لعبة تجارية جديدة يُسوِّق بها نفسه للأنظمة الخليجية، التي تعلّمت أن تدفع بالمليارات مقابل "الحماية".

لقد كان ترامب في ولايته الأولى يُذكي نار الصراع بين السعودية وقطر، فصار هو "الحلاب الأكبر" كما وصفته قناة الجزيرة، حين فرض صفقات أسلحة بمئات المليارات، كثيرٌ منها لم يُستخدم إلا لتأجيج نيران المنطقة.

الرأسمالية: الوحش الجائع الذي لا يعيش إلا بالحروب

إن النظام الرأسمالي العالمي لم يعد فقط على حافة الانهيار، بل يغرق في أزماته البنيوية التي لا حلّ لها من داخله. فهو نظام قائم على الاستغلال، يغذّي نفسه بالأزمات والحروب، يُغدق الرفاه والتخمة على الـ1% التي تحتكر الثروة والسلطة والإعلام والقوة، بينما يسحق الـ99% الباقين بالفقر والتجويع والبطالة.

وصفه نقّاده الحقيقيون – من ماركس ولينين وماوتسي تونغ إلى تشومسكي وغريبر – بأنه جزار لا يواصل الحياة إلا بالذبح، لا يبقي إلا إن استنزف فائض السكان والسلع والثروات، محوِّلًا العالم إلى أسواق مضطربة وساحات معارك لا تهدأ.

ديفيد غريبر... صوت الأناركية المعاصرة

من أبرز المفكرين المعاصرين الذين فضحوا هذا النظام الوحشي، كان ديفيد غريبر، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الذي عرّى الرأسمالية الحديثة بأسلوبه الثوري:

في كتابه "الديْن: أول 5000 سنة"، كشف أن آليات الديْن ليست اقتصادية بحتة، بل أدوات قمع واستعباد اجتماعي.

وفي "الوظائف الهرائية"، هاجم نمط العمل الحديث المليء بالوظائف الزائفة التي تُنهك البشر دون فائدة.

قاد شعار "نحن الـ99%" في حركة "احتلوا وول ستريت"، دافعًا باتجاه ديمقراطية تشاركية شعبية.

أفكاره أضاءت عقول الملايين، ولامست قلوب المهمشين من بيروت إلى نيويورك، مرورًا بغزة ودمشق وبغداد.

وفي خضم هذا المشهد العالمي المضطرب، يبرز على ضفة الفكر المقاوم طيفٌ من المفكرين الذين سعوا إلى تفكيك بنية الهيمنة النيوليبرالية، بدءًا من ديفيد غريبر الذي فَضح عبثية الوظائف المعاصرة وعرّى الوعد الكاذب للتقدم الرأسمالي، مرورًا بـ نعوم تشومسكي (Noam Chomsky): المفكر الامريكي الاشتراكي الذي الف عشرات الكتب التى تضمنت نقد لاذع للرأسمالية والإمبريالية مما جعله مرجعًا لليسار الأمريكي، بما في ذلك التيارات الشيوعية

سلافوي جيجك الذي يقلب البنى السردية للنظام العالمي ويكشف لا شعور الرأسمالية، وليس انتهاءً بـ سمير أمين، المفكر الماركسي المصري الذي قدّم أطروحات جذرية لفهم التفاوت بين المركز الرأسمالي والأطراف المستغَلّة.

في كتابه "الرأسمالية المتهالكة"، صاغ سمير أمين تحليلاً دقيقًا لانحدار النظام العالمي إلى طور الاحتكار المعولم، حيث تُفرَض التبعية على شعوب الجنوب بآليات أشد قسوة من الاستعمار الكلاسيكي. يرى أمين أن النيوليبرالية ليست مجرد نموذج اقتصادي، بل عقيدة متوحشة تسعى إلى تفكيك أي مقاومة وطنية، وتجريد المجتمعات من سيادتها السياسية والغذائية والثقافية، ليُعاد تشكيل العالم وفق مصالح رأس المال المالي المعولم.

وفي هذا السياق، يقترح أمين إعادة بناء الدولة الوطنية المستقلة على قاعدة إنتاجية ومجتمعية جديدة، تقطع مع التبعية البنيوية وتعيد الاعتبار لمشروع التنمية المتمركزة على الذات. لم يكن سمير أمين مفكرًا نظريًا فحسب، بل كان مناضلًا عالميًا انخرط في تأسيس شبكة "منتدى العالم الثالث" و"منتدى باماكو"، داعيًا إلى وحدة الشعوب المقهورة، وبناء تحالف أممي جديد مناهض للرأسمالية.

الرأسمالية تُمزق العالم وتحرف الصراع

لقد تفنّن النظام الرأسمالي في تحريف الصراعات الطبقية إلى صراعات طائفية وعرقية ومناطقية، كما نرى بوضوح في العراق، لبنان، سوريا، اليمن... دول تمزقت وشُطرت، وجُعلت رهينة لمحاصصات طائفية مرتهنة للخارج. لم تعد الدولة الوطنية سوى هيكل فارغ تنهشه ولاءات عابرة للحدود.

هل يعيد ترامب بناء الإمبراطورية... أم يسرّع سقوطها؟

عودة ترامب تعني استمرار الابتزاز والصفقات والهيمنة عبر المال والسلاح. لكنها أيضًا علامة ضعف، فالأمبراطورية العجوز تستنجد ببائع الكلام وبطل الفجاجة. الرأسمالية تحاول أن تجدّد جلدها، لكن الفيروس في عظامها، ومفاعيل الانفجار القادم تتجمّع في صمت.

الأسئلة مفتوحة على المجهول:

هل يستطيع هذا النظام أن ينهض من أزمته البنيوية الخانقة؟

وهل ترامب هو "الدواء"، أم آخر مسمار في نعش الإمبراطورية؟

الزمن وحده سيُجيب…

لكننا نعرف جيدًا أن الشعوب المنهوبة هي من تدفع الثمن، دائمًا وأبدًا.

ولم تكن اليمن الكائن بجنوب الجزيرة العربية والجار الاقرب لامارات النفط الخليجية بمنأى عن هذا الخراب العالمي. اليمن المنسي المفقر الجائع يتفرج على بؤسه ومعناته وتعاسته جيرانه الاقرب الذي فتحوا خزائن الذهب الاسود النفط العربي بكرم حاتمي لانقاذ الرأسمالية المتهالكة بزعامة زعيمها ترامب ،وبذلك قد تجدد الرأسمالية نفسها وتتجاوز ازمتها الدورية ..

بل كانت اليمن وماتزال الى اليوم أحد أكثر النماذج فداحةً لتكلفة الهامش العالمي في زمن الرأسمالية المتهالكة. فعلى مدى عقود، فُرضت على اليمن برامج "الإصلاح الاقتصادي" تحت إشراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فجرى تفكيك القطاع العام، ورفع الدعم عن السلع، وتحرير العملة، وتسليع التعليم والصحة والخدمات الأساسية.

دخلت اليمن الألفية الثالثة بوصفها دولة مأزومة، تابعة اقتصاديًا، منهارة تنمويًا، وقد جرى ربط نخبها السياسية والبيروقراطية بمصالح المانحين، لا بمصالح شعبها. وحين انفجرت التناقضات البنيوية في 2011، لم يكن ذلك مجرد ربيع سياسي، بل زلزال اقتصادي-اجتماعي ناتج عن عقود من الإفقار والتهميش والإذلال، باسم "التحول إلى اقتصاد السوق".

ثم جاءت الحرب لتضاعف المأساة: حربٌ هجينة، فيها الدولي والإقليمي والمحلي، تدمر ما تبقى من الدولة، وتُنتج طبقات جديدة من السماسرة وتجار الحرب. ارتفعت نسب الفقر إلى أكثر من 80%، وسُحقت الطبقة الوسطى، وأصبحت الحياة اليومية خاضعة لشبكات الجباية والفساد والنهب المنظَّم، في غياب أي أفق تنموي أو عقد اجتماعي جامع.

إن اليمن اليوم تدفع ثمنًا باهظًا ليس فقط لحرب عبثية، بل لنظام عالمي حولها إلى حقل تجارب للفشل، ولنيوليبرالية لم تنتج سوى الخراب. ما يحدث في اليمن ليس استثناء، بل هو النتيجة المنطقية لنظام عالمي يقيس المجتمعات بقدرتها على الاندماج في السوق، لا بقدرتها على صون كرامة الإنسان.

إن استعادة اليمن لحقها في الحياة لا تقتضي فقط إنهاء الحرب، بل تجاوز نموذج الدولة التابعة، والتفكير في مشروع وطني بديل، مقاوم، يعيد الاعتبار للمجتمع المنتج، ويعيد بناء الدولة من الأسفل، بعيدًا عن وصفات المانحين وابتزاز النخب.

منذ عشر سنوات، وتحديدًا بعد سقوط الدولة اليمنية في أعقاب انتفاضة 2011 وما تلاها من انتقال هجين للسلطة، دخلت اليمن مرحلة الفراغ السيادي والانهيار المؤسسي. جاءت الحرب في 2015 لتغرق ما تبقى من الدولة في مستنقع عبثي تحوّلت فيه البلاد إلى مسرح لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.

السعودية والإمارات دخلتا الحرب بذريعة دعم "الشرعية"، لكن سرعان ما تكشّف المشروع الإماراتي في الجنوب عن نزعة استعمارية مباشرة للسيطرة على الموانئ والجزر، فيما انزلقت السعودية إلى مستنقع لا مخرج منه، تُستنزف فيه أموالها ونفوذها، دون أن تحقق أي نصر استراتيجي.

أما إيران، فقد وجدت في جماعة الحوثي فرصة نادرة لتطويق الخليج من خاصرته الجنوبية، دون أن تدفع كلفة الحرب. دعمتهم بالسلاح والخبرة، وجعلت منهم ورقة ضغط إقليمية، تضرب بها في العمق السعودي، وتستخدمهم في معادلة التفاوض النووي.

وفي الخلفية، كانت الولايات المتحدة حاضرة ببرود استراتيجي، تُشعل ولا تحترق. غضّت الطرف عن صعود الحوثيين، ثم استخدمتهم لاحقًا كمخلب قط، لإرهاب الخليج واستنزافه وتخويفه، كي يستمر في شراء الحماية والسلاح من واشنطن. فكلما ارتفع صراخ الحوثيين "الموت لأمريكا"، ازداد اعتماد الخليج على أمريكا.

حتى بريطانيا، الإمبراطورية العجوز، عادت لتتسلل من نافذة الحرب عبر شركات السلاح، وخبراء "السلام"، وسفرائها الذين يوزّعون خرائط النفوذ.

الصين وروسيا لم تقفا بعيدًا. الأولى تسعى لمد نفوذها عبر "طريق الحرير" البحري، ووضعت عينها على الموانئ اليمنية، والثانية وجدت في توازن الفوضى فرصة لتقويض الهيمنة الأمريكية في المنطقة.

وما بين هذه القوى، دخلت قطر وعُمان كفاعلين ثانويين في لعبة النفوذ، يراهن كل منهما على أوراق محلية لضمان دور في مستقبل اليمن، ولو على حساب وحدة البلاد واستقرارها.

كل زناة الأرض مرّوا من هنا. تركوا بصماتهم على الجراح المفتوحة، وتبادلوا الأدوار على جسدٍ أنهكه الفقر والتشظي. لم يبقَ في اليمن ما يُنهب إلا الإنسان، الذي صار سلعة للحرب، ورقماً في قوائم الإغاثة، وضحية في سرديات الإعلام.

الجائعون في صنعاء وعدن وتعز والحديدة وحضرموت ليسوا مجرد ضحايا لحرب داخلية، بل ضحايا نظام عالمي ينظر إليهم كأدوات لا كأرواح. الأطفال في اليمن لا يموتون فقط من الجوع، بل من العار الأممي، ومن "المجتمع الدولي" الذي يفاوض على الخرائط ولا يلتفت للقبور الصغيرة.

كان الزعيم الخالد جمال عبد الناصر – آخر الأنبياء كما وصفه نزار قباني – واجه غدر وتآمر، من قبل امراء النفط وبعض الانظمة العربية ويُعَدّ ماحصل لمشروع ناصر التقدمي النهضوي الوحدوي من انتكاسة وهزائم تمهيدًا تاريخيًا لهذا الخراب الشامل. الذي تعيشه كل الجمهوريات العربية لقد كان ناصر مشروعًا للتحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي، فتكالب عليه الغرب الاستعماري ، وخذلته الرجعية العربية، وقُتل مشروعه قبل أن يكتمل. واليوم، يُقتل اليمن بنفس الطريقة: بالتحالف بين الإمبريالية والرجعية والفساد المحلي.

---

لا خلاص لليمن إلا بالخروج من المعادلة التبعية. لا أفق في أي مشروع تُرسم ملامحه في الرياض أو طهران أو واشنطن. ما لم يُعد بناء اليمن من الداخل، من قاعدته الشعبية، ومن قوى المجتمع المنتج، فكل الحلول ستكون تأجيلاً للكارثة.

الحل يبدأ باستعادة السيادة الوطنية عبر التحرر من كافة أشكال الهيمنة الخارجية، ورفض منطق المحاصصة الطائفية والمناطقية. يجب أن تتشكل جبهة شعبية وطنية تقدمية تضم العمال، والفلاحين، والمثقفين الوطنيبن، وقوى التنوير، تناضل من أجل:

اقتصاد إنتاجي مستقل لا ريعي ولا تابع.

دولة مدنية ديمقراطية تمثل مصالح الأغلبية الكادحة.

تفكيك شبكات الحرب والفساد واستعادة المال العام المنهوب.

إصلاح زراعي وعدالة اجتماعية تضع الإنسان قبل الربح.

اليمن لا يحتاج إلى وصاية جديدة، بل إلى ثورة جديدة تعيد تعريف الوطن لا كمزرعة لزناة الأرض، بل كبيت للكرامة الشعبية.

وفي زمن الخداع المعمم، فإن قول الحقيقة هو فعل ثوري. فلنقلها: اليمن لا يُبنى إلا من تحت، بأيدي أبنائه، ضد كل عدو خارجي وسمسار داخلي.