القول الفصل : نحن واليمن وغزة والحوثي

منذ فترة وأنا أُرجئ الكتابة في هذا الموضوع، رغم إلحاحه وضرورته فالأحداث تتسارع بين ما هو ميداني أو عاطفي أو تحليلي. 

لكنني اليوم، أجد أنه لا بد من وقفة بين اليمن وغزة والحوثي، بين فلسطين والقضية اليمنية عن المسافة بين الوطن والمهنة والمسافة بين الرأي والموقف .

كلما كتبت منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي، أو علّقت حول الشأن اليمني، وخاصة فيما يتعلّق بجماعة الحوثي، تتوالى التعليقات التي تتهمني بالعمالة لإسرائيل أو أمريكا، وكأن كل من ينتقد الحوثيين يصبح تلقائيًا في صف الأعداء، أو في خانة معاداة فلسطين. وهذه معادلة ظالمة، مجحفة، ولا تستقيم لا مع المنطق، ولا مع المهنية، ولا مع أي قراءة موضوعية للمشهد.

أنا، من موقعي كصحفي ومتابع للشأن اليمني ، قد أعرف من التفاصيل والمعطيات ما لا يتوفر لكثيرين. وواجبي المهني أن أعلّق وأنتقد كل الأطراف: الحوثي، المجلس الانتقالي، الحكومة اليمنية، أو الأطراف الإقليمية والدولية. فالخبر والمعلومة لا تعني الانحياز، كما أن الصمت لا يعني الحياد.

يفترض كصحفي أن يكون صوتي متزناً، قائماً على رؤية تحليلية، قدأصيب فيها وقد أخطئ، ولا يعتمد الأمر فقط على المهارة، بل على سرعة الأحداث، وتدفق المعلومات التي تصلنا يوميًا. لكن السؤال الأهم هنا: هل كل من كتب عن الحوثي هو عميل لإسرائيل أو أمريكا؟ 

وهل كل من انتقد الحوثيين لا يحب غزة أو لا يدافع عن فلسطين؟

الحقيقةنحن كعرب وكيمنيين، أكثر الشعوب إحساسًا بالقضية الفلسطينية، وكتاباتنا ودفاعنا عنها ممتد منذ عقود ولا يستطيع أحد أن يزايد علينا في هذا!

الواقع أن الربط بين الحوثي وفلسطين، وبين نقد الحوثي والعداء لفلسطين، هو ربط خاطئ. فالحوثي ليس فلسطين، ولا غزة هي الحوثي. هذا التلازم المتوهم يضر بالقضيتين معًا، ويشوّش على حقيقة الموقف.

الحوثيون لديهم ممارسات في الداخل اليمني، بعضها - بحسب نظرة كثير من اليمنيين - يفوق في قسوته ما تفعله إسرائيل في فلسطين. فهل يُطلب من اليمني أن يُحب الحوثي فقط لأنه أطلق صاروخاً على البحر باسم غزة؟ وهل يُفترض من شعب تُنتهك حياته اليومية، أن يُجبر على تأييد من يراه سببًا في مأساته، فقط لأنه يرفع شعار “الموت لإسرائيل”؟

نعم الحوثي يعلن أنه يناصر فلسطين، ولكن هل هذا يُلغي ما يفعله في الداخل اليمني؟ وهل يصبح ذلك مبررًا لتمجيد سلوكياته والتغاضي عن انتهاكاته؟ الواقع يقول: لا.

و لا يجوز تحويل إسناده لغزة إلى صك غفران. 

فالمعيار الحقيقي هو ما تفعله الجماعة في الداخل أولاً، ومدى التزامها بالقيم التي تدعي الدفاع عنها.

والحقيقة أن المعاناة لا تأتي من طرف واحد فقط، ولا تُختصر في جماعة دون غيرها. ففي كل مرة أكتب فيها أوأعلق، أجد نفسي عرضة لهجوم مزدوج من أنصار الجماعة الذين يرون في أي نقد خيانة، ومن خصومهم أيضا.

امتلأت حساباتي على “تويتر” و”فيسبوك” بسيل من الشتائم والتخوين والتهم. ومع أنني لا أحتاج إلى تكرار ذلك، فإنني أؤكد مجددًا أنني صحفي، أنقل الواقع كما هو، وأحلله بقدر ما أتيح لي من معطيات. لكن يبدو أن هذه البديهية تغيب كلما تعلّق الأمر بتناولات عن الأطراف اليمنية ، حيث يصبح كل موقف وسط أو تحليلي موضع شك، وكل ملاحظة مهنية تُقرأ وكأنها اصطفاف مع الآخر.

وهناأجد من الضروري أن أكرر موقفي من الحوثيين، وهو موقف كثير من اليمنيين أيضًا: إدانة واضحة لما ارتكبوه منذ سيطرتهم على صنعاء، وانقلابهم على الدولة بالشراكة مع علي عبدالله صالح، بكل ما ترتب على ذلك من انتهاكات 

. هذا موقف معلن، كتبته مرارًا في مقالاتي، وصرحت به في كل منبر.

لكن، هل يعني ذلك أن أتغاضى عن الطرف الآخر؟ أن أُعفي الحكومة المعترف بها دوليًا من النقد والمساءلة؟ بالطبع لا.

 فهذه الحكومة، التي يفترض بها أن تمثّل اليمنيين، ارتكبت من الأخطاء ما لا يقل كارثية.

 من الشراكة مع الإقليم بطريقة أفضت إلى تفتيت البلد، إلى الفشل في إدارة المرحلة، مرورًا بإفساح المجال لتعدد الميليشيات والتشكيلات المسلحة، وتفشي الفساد، وإهدار المال العام، والتفريط بالسيادة.

الواجب المهني والأخلاقي يقتضي أن نضع الجميع تحت المجهر، لا أن أنتقي طرفًا وأمنحه صك البراءة لمجرد أنه “الشرعية”. 

لا يمكن أن أكون شاهد زور، ولا أن أتحول إلى بوق يصفّق لهذا الطرف أو ذاك. 

فاليمن أكبر من كل الجماعات، وأقدس من أن يُختصر في حسابات ضيقة، أو يُربط مصيره بولاء لهذا أو معاداة لذاك.

 ثم ..من منّا يمتلك الحقيقةمن بين كل هؤلاء؟

أيُّ طرف يستطيع أن يدّعي أن ساحته كانت نزيهة ومبرأة خلال السنوات العشر الماضية؟ 

هل يجرؤ أحد من اليمنيين أن يقول اليوم، بثقة، إنه لم يخطئ؟ 

الحقيقة أن الجميع بلا استثناء شارك، بطريقة أو بأخرى، في إيلام هذا الوطن. كل الأطراف كانت جزءاً من البلاء، وكلهم أسهموا، بدرجات متفاوتة، في تمزيق اليمن.

حتى أولئك الذين يرفعون اليوم شعارات “التصالح والتسامح دون شروط”، هل وقفوا مع أنفسهم لحظة وسألوا: هل نحن أبرياء فعلاً؟ 

ألم نقتل؟ 

ألم نتغاضَ حين كان رفع الصوت واجبا والصمت خيانة؟

الحقيقة المرّة أن لا أحد يملك حق الادّعاء بالبراءة. 

كلنا، بدرجة ما، مدينون لهذا البلد بحساب مؤجل.

نحن مع فلسطين، قلبًا وقالبًا، وسنبقى. 

ومع اليمن الوطن الأغلى مع الضحايا، مع المبدأ، مع الحرية، ومع حقنا في أن نقول: الحوثي ليس فلسطين. وغزة ليست الحوثي والشرعية ليست ممثليها الموجودين في الخارج والمعينين على الكراسي .

 وعلى الجميع أن يعفينا من قول الأكاذيب لصالح طرف ونحن لا نعفي أنفسنا ومن قيمنا و أخلاقنا والتزامنا بالثوابت والمبادئ..