أنا المذيعة الأمورة، والأخ من؟
تخيّل أنك أمضيت نصف عمرك على شاشة التلفزيون، والناس تحفظ ملامحك أكثر مما تحفظ أسماء أولادها، ثم فجأة تأتيك مذيعة، يُفترض أنها زميلة، وتسألك: "الأخ من؟"
هذا بالضبط ما حدث مع الإعلامي الكبير محمد الردمي، الرجل الذي كان ضيفًا يوميًا على شاشات اليمنيين لسنوات، حتى صار موعد نشرة الأخبار في التاسعة مساءً طقسًا مقدسًا، تمامًا مثل صلاة العشاء، لا يؤجَّل ولا يُلغى!
كان "الردمي" هو الوجه الذي يطل على اليمنيين ليخبرهم بما يحدث في بلادهم قبل أن تصبح الأخبار "مشاعًا" في زمن الواتساب والفيسبوك، وقبل أن تتحوّل النشرات الإخبارية إلى حفلات تنكرية بمذيعين لا يفرقون بين "المصدر الرسمي" و"مصدر مقرب من جدتي".
في لقاء تلفزيوني، تجلّى العجب العجاب؛ إذ سألته المذيعة بكل ثقة: "الأخ من؟" وكأن الرجل هبط للتوّ من كوكب آخر.
حاول أن يستوعب الصدمة، ثم أجاب بهدوء يشبه ذاك الذي كان يقرأ به نشراته: "أنا؟ محمد الردمي"
ومن هول صدمة المذيعة "اللهلوبة" إعتقدت للتو أنه صاحب شركة جوالات "ردمي"، وربما قريبه، ولم تكتفِ بهذا القدر من "التميّز المهني"، بل قررت أن تصنع تاريخًا جديدًا في فن الاستجواب الإعلامي، فسألته السؤال الأكثر إحراجًا: "أيش تشتغل؟"
هنا، لا بد أن الردمي شعر للحظة بأنه دخل نفقًا زمنيًا غير زمنه، فربما كان يتوقّع سؤالًا عن رأيه في تطور الإعلام، أو مقارنة بين النشرات في عهده والعصر الحديث، لكنه لم يكن مستعدًا لسؤال كهذا من شخص يُفترض أنه زميل مهنة. لكنه، وبكل أدب واحترام، أجاب: "إعلامي."
لكن المذيعة لم تُظهر أي علامة على أنها استوعبت، وقالت: "آها، أنت من البيض وداخل .... يعني زميل؟"
وهنا، لم يكن أمام الردمي سوى أن يهزّ رأسه موافقًا، ربما لأنه أيقن أن النقاش غير مجدٍ، أو لأنه أدرك فجأة أن الزمن قد تغيّر، وصار الإعلامي الحقيقي ضيفًا ثقيلًا في زمن المؤثرين، حيث يمكن لأي شخص أن يصبح نجمًا إذا عرف كيف يضبط زوايا التصوير، وأتقن فن التحديق في الكاميرا ببراءة مصطنعة!
والأعجب من كل ذلك، أن القناة لم تقم بحذف هذا المقطع أثناء المونتاج! يبدو أنهم أرادوا أن يمنحونا درسًا عمليًا في كيف تغيّر الإعلام، وكيف أصبح الجيل الجديد من المذيعين يسأل أسئلة لو سمعها طالب إعلام في السنة الأولى، لألقى بكتبه من النافذة وانطلق ليبحث عن مهنة أخرى.
لكن، في النهاية، لا نملك إلا أن نقول للأستاذ محمد الردمي: نحن آسفون، فهذا زمن "مشاهير السناب" و"مذيعي التريند"، أما أنتم يا أهل النشرات الجادة، فمكانكم صار في الذاكرة الخلفية لبنطلونات صناع القنوات التافهة.
وخواتم مباركة، أستاذ محمد، وأعاننا الله جميعًا على ما تبقى من هذا العصر!